دي مستورا وسرّية المفاوضات

دي مستورا وسرّية المفاوضات
في مؤتمره الصحفي المخصص للإعلان عن عقد مؤتمر جنيف الثالث لحل الأزمة السورية، قال المبعوث الأممي لسورية ستيفان دي مستوار إنه لن يكون هناك أي جلسة افتتاحية رسمية للمؤتمر،ولن تكون هناك قاعة مليئة بالناس، وإنما ستجري محادثات ثنائية تستمر ستة أشهر، ستبدأ دون أي شروط مسبقة ودون وضوح رؤية بشأن اتجاهها.

تشير التحضيرات إلى أن الأمم المتحدة جهّزت قاعتين منفصلتين لاستقبال الوفود السورية، واستحدثت جداراً طويلاًفصل الممرات المؤدية إلى القاعات، وعزلت البهو الداخلي للطابق الثاني من المقر بشكل يمنع الصحفيين نهائياً من التواصل مع المتحاورين.

هذا كل ما قاله المبعوث الأممي عن آلية التفاوض ومنهجه وأسلوبه، رغم أن الدعوة لأي ندوة ثقافية هامشية ينبغي أن يتحدد فيها منهج الندوة وبرنامجها وأسلوب تعاطي المشاركين والمتدخلين فيها، وهذا الأمر البسيط غاب كلياً عن مؤتمر دولي حسّاس وخطير كالمؤتمر المرتقب.

دعا دي مستورا عدداً غير محدد من المعارضين السوريين، ولم يُعلن أسمائهم ولم يكشف هوياتهم، وكأن الأمر سرّي يجب أن لا يعرف به السوريون، بعضهم أعضاء الوفد التفاوضي الذي اختارته الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض، وبعضهم من قائمة تبنّتها موسكو وتضم عرباً وأكراداً وبين بين، بالإضافة إلى العديد من الناشطين والمعارضين المستقلين والعاملين في المنظمات الإنسانية والإغاثية والكثير من النساء.

سيضع الرجل وفود المعارضات السورية والمستشارين والمراقبين في فنادق متعددة ومدن مختلفة، كما سيضعهم في قاعات مفصولة، وسيتنقل هو وفريقه بينهم من جهة وبين قاعة وفد النظام من جهة ثانية كـ (مكوك الحائك)، ولن يرى بعضهم بعضاً، وربما لن يعرف بعضهم من يوجد في القاعة الأخرى، وستكون هناك اجتماعات متفرقة لن يعرف بموعدها أو ما ُسيُطرح فيها أو ما طُرح إلا من يوجد داخل كل قاعة، وسيبقى كل ما يتم تداوله سرّياً يملك مفاتيحه وحقائقه دي مستورا وحده.

ضمن هذا المنهج، سيقوم الرجل بنقل المعلومات من غرفة الاجتماع هذه إلى تلك، كما سيقوم بنقل المواقف من هذا الطرف إلى ذاك، وسيحمل رسالة من هنا إلى هناك، لكن في الطريق بين هذه الغرف وفي الممرات لا يعرف أحد ماذا سيحدث، فمن الممكن أن يتم نقل مواقف الأطرف فيما بينها بشكل دقيق وأمين، لكن لا ضمانة أيضاً أن يتم تحريفها أو التعامل معها بتصرّف، أو حتى أن تُنقل بشكل غير صادق ومُخادع، ولن يستطيع أحد اكتشاف الحقيقة وسط السرّية التي سيحيطها الرجل بكل جولاته المكوكية بين الغرف.

هذا الاتهام بالذات ليس تجنّياً أو بعداً عن المنطق والسياسة، فقد شهد السوريون تجربة سابقة مشابهة غير مشجّعة مع الرجل، فقد التقى في أيار وحزيران وتموز العام الماضي بأكثر من مائة وخمسين من المعارضين السوريين من كافة التيارات والاتجاهات والمشارب، وتقدّم بعد الاجتماعات بمبادرة لمجلس الأمن تستند إلى تشكيل أربع مجموعات عمل تتشكل من الحكومة السورية والمعارضة والمجتمع المدني، تبحث في القضايا الإنسانية والأمنية وإعادة الإعمار، وأعلن بالنيابة عن كل المعارضة التي التقى بها بأنها تؤيد بشدة هذه الخطة، لكن بعد الإعلان عن خطته، سارعت (المعارضات) السورية لتوجيه الانتقادات لها، ونفى غالبية المعارضين الذين التقوا بالرجل أنهم يؤيدونها، ووصفها بعضهم بالفاشلة أو التآمرية، وقال آخرون (أيضاً ممن التقى بهم) إنها تنتهك كل القوانين الدولية والشرائع الإنسانية.

اتّبع دي مستورا في لقاءاته لمئات السوريين نفس الأسلوب الذي سيتبعه بمؤتمر جنيف، حيث التقى هناك بكل واحد (أو مجموعة) على حدة، ولم يعرف أي واحد ما قاله الذي سبقه ولا ما سيقوله الذي يليه، وحين أعلن دي مستورا موافقة السوريين على المبادرة، اعتقد الجميع أن كل من التقى بهم المبعوث الأممي وافق إلا هو، إلى أن بدأ الجميع ينفون تباعاً على وسائل الإعلام.

ما سيجري في غرف دي مستورا المغلقة، البعيدة عن الإعلام والصحافة، والبعيدة عن أي مراقبة من أي جهة، يثير أسئلة حول سبب هذه السرّية الشديدة، فجميع السوريين يعرفون (البير وغطاه)، وما سيُبحث يهم كل السوريين فرداً فرداً، وما سيطرحه كل طرف معروف ومحفوظ عن ظهر قلب، ومن حق كل السوريين أن يعرفوا ما سيجري خطوة خطوة وما سيُناقش بنداً بنداً، كما من حق من دُمّرت بلده وقُتل فيها مئات الألوف وشرّدوا بالملايين إلى أصقاع الأرض أن يعرفوا ما يجري بخصوص حاضرهم ومستقبلهم، وبرأي غالبية السوريين فإن أي محاولة لفرض السرّية على ما سيجري هو عمل مشبوه يخفي ما يخفيه.

لن يُفاجئ السوريون بـ (تشبيح) النظام في المفاوضات، ولا بطائفيته أو حقده على أهل بلده، كما لن يُفاجئوا بـ (ضعف) المعارضة، أو (انتهازية) بعض المعارضين، ولن تهزهم المواقف المزدوجة لبعض الناشطين، فهم خلال خمس سنوات خبروا كل هذه الأطراف وعرفوها أكثر مما يعرفها دي مستورا وغيره، ومن حقهم الآن أن يعرفوا أقصى ما لدى كل طرف منهم.

لسنا بصدد تقييم المبعوث الأممي غريب الأطوار والمفاهيم، الذي قدّم للسوريين حتى الآن ثلاث مبادرات إشكالية فاشلة، ولا بصدد انتقاد برامج وأوراق عمل المفاوضات، ولا تقييم مستوى شخصيات المعارضة السورية المشاركة، لكننا بصدد التأكيد على أهمية أن يكون كل ما سيجري في مؤتمر جنيف علني، وعلى حق السوريين متابعة جلسات المفاوضات على شاشات بث مباشر، ودون ذلك، لا يمكن لوم السوريين إن وصفوا ما سيجري في جنيف طوال ستة أشهر بالمؤامرة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات