حكاية حموية طويلة "كنا عايشين"

 حكاية حموية طويلة "كنا عايشين"
ارتمت أم حسن في نهايةِ المطاف على مصطبةِ بيتها الخارجية في حي الشمالية، أو بطريقةٍ أصح، ماتبقى من الحي، عادتْ لتوها من فناءِ مسجد عمر بن الخطاب بخيبةٍ أخرى وأخيرة، بعد أن رفضَ المؤذن المناداة على اسمِ ولدها الوحيد حسن، المفقود منذ ستة عشرَ عاماً.

مشت أم حسن في طريقِ عودتها، بين بقايا حي السّخانة، المتربع على بقعةٍ جغرافيةٍ، أُزيلت عن الوجود، واستُبدِلَ أهلها وأحياؤها الأثرية التي كانت مصنفةً على قوائمِ اليونيسكو لمواقعِ التّراثِ العالمي، بأكوامِ ركامٍ تجرحُ العيون، ولاتسر النّاظرين، ماعادت أم حسن مهتمةً بتلك الكآبةِ المتكدسة، المتمثلة بصورةِ الدّمار المتشظي في ثلث أحياء حماه، ولا عادت قادرةً على الانتظارِ أكثر. ففي مدينةٍ لايملكُ سكانها إلا انتظارَ العفو من السيد الرّئيس، والخلاص من المخبرين، أصبحت الحياة قاحلةً، وصارَ الموتُ البطيئ روتيناً، وبات الجميع متهماً بالانتماءِ لتنظيمِ الاخوان المسلمين المحظور، حتى لو ثبتت براءته.

لم تقاوم أم حسن شهوتها في البكاءِ الآخير، صيف عام 1998، كبحت دموعها عقدٍ ونيف من الزّمن، فتفجرت بالجملة، عندما أيقنت أنّ الضابط البعثي الذي دفعت له مصاغها الذّهبي كرشوةٍ، للبحثِ عن ابنها حسن في قوائمِ المعتقلين، كان كاذباً ولصاً صغيراً ضمنَ منظمومةٍ مافيويةٍ بالغة التّعقيد، اعتاشت طويلاً على رشاوى ذوي المفقودين والمعتقلين، وما أكثرهم. 

استسلمت أم حسن لضعفها ووحدتها، رَأتْ حماة على شكلِ حسن، فخذلتها حماة المُخيفة، التي أسموها زوراً وبهتاناً "مدينة"، أبداً ذلك لم يكن، لم تكن حماة سوى جهنم صغيرة، مسكونة بالأشباح وأرواح الضحايا، وعيون كُتّاب التّقارير، ودوريات الأمن. مسكونة بقصص 40 ألف ضحية ومثلهم من المفقودين والمعتقلين، كانت لهم عاداتهم وتقاليدهم وكانوا جزءاً من حياتنا، مسكونة بالخوفِ والقهر، بالظلمِ واحتقار الكرامات، بإهانةِ النّاس وإذلال النّفوس البشرية من قبلِ بعث "تحريرِ فلسطين"، مسكونة بصورِ السّيد الرّئيس الذي اتهمنا على الدّوام بالخيانةِ والعمالة، وجردنا من وطنيتنا، غير آبهٍ بحناجرنا التي بحت من ترديدِ النّشيدِ الوطنيّ والأناشيد القومية في باحاتِ المدارس. 

كفكفت أم حسن دموعها بأطرافِ ثوبها الفضفاض، انحنى رأسها على كتفيها المُتعبَيْن، وارتقت روحها المكسورة إلى بارئها، حملها الجيران إلى غرفتها المُظلمة في صدرِ الدّار، غسّلوها، كفنوها، وطافوا بجسدها المُرهَق في أرجاءِ حماه، قال الطبيب إنها توفيت بأزمةٍ قلبية..

كلا، لم تقتلها الجلطة، قتلها الانتظار، قتلتها الكآبة، قتلها حزب البعث العربي الاشتراكي على دفعات، عندما أطلقَ أحد جنوده، ستَ رصاصاتِ حقدٍ على صدرِ زوجها في المجزرة الرّهيبة عام 1982 أمام عينيها، ثم اعتقلوا ابنها الذي أنجبته بعد سنين العقم، وغيّبوه قسرياً في معتقلاتهم إلى يومنا هذا، رغم أنّ حسن وقت اعتقاله لم يبلغ الخمسةَ عشرَ عاماً.

عرفَت حماة لاحقاً، التي تعرضَ أهلها لعقوبةٍ جماعيةٍ لم تسقط بالتّقادم، أنّ مصاص الدّماء حافظ الأسد، رفض الانصياع لوساطات عدة، في الإفراج عن المعتقلين، والبحث عن المختفين، أوالتّعويض على عائلات الضحايا، إنما اكتفى بتشديد المراقبة وبناء المعتقلات. فلم يروِ ظمأ إجرامهِ المجزرة المروعة، إنما راح يعززُ من صورته الوحشية في عيوننا، فقد استعاضَ عن إعادةِ إعمارِ المدينة وبناء الجامعات والمنشآت الاقتصادية، ببناءِ سلسلةٍ من المعتقلات الكبيرة فيها. بنى سجن حماة المركزي، وقسم أمن الدّولة، والأمن الجنائي، والمخابرات الجوية، وسدَّ مداخل المدينة بمعتقلَيْنِ رهيبين، ماتَ فيهم الآلاف من شدةِ التّعذيب، فرع الأمن السياسي في مدخل حماة الشمالي، حيث أقيم تمثال المجرم الوقح كالليمون الساحلي الحامض فوق جروحنا، وفرع الأمن العسكري في مدخلها الجنوبي، حيث ترتفع صورته على النّاعورة الحجرية، إلى أن تحولت مدينتنا المنخفضة جغرافياً، بحراً كبيراً من الرّعب والهموم، فَشِل نهر العاصي الوادع في جرفِ بعضٍ منها خارج الكآبةِ المتفاقمة، فاستحقت بجدارةٍ منقطعة النّظير، لقبها الرّائج بين أهلها "جـورة الهـم".

 

وإن كان في الأمرِ جريمة ٌتضاهي تلك الجريمة بل وتسبقها، فهي إفلات القتلة من العقاب، وهروبهم إلى دول الاتحاد الأوروبي مع عائلاتهم، لنراهم اليوم على الشّاشات، يشاركوننا الثورة ضد النّظام الذي كانوا ذراعه العسكرية الفتاكة، يوزعون شهادات الوطنية وحسن السلوك، ويتحدثون عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان، من القاتل الطائفي رفعت الأسد، إلى المجرم السّفاح مصطفى طلاس. لكن في ظل أعمال الإبادة المرتكبة بحقِ الشّعب السّوري اليوم، من قبلِ مجرم الحرب بشار الأسد، يبدو واضحاً أنّ من أفلت من جريمةِ حماه، مُهِدَ له الطريق ليفلتَ من جريمة سوريا.

عموماً، إلى أم حسن في قبرها، أهدي الفاتحة والتّحيات، وأقول لها: بأنّ حماه الرّائعة، داست تماثيلَ القاتل أخيراً، ومزقت صورَ بعثه، لكنها اليوم، في ذكرى المجزرة الـ 34، وبعد خمسة أعوامٍ من الثّورة العظيمة، ليست على مايرام.

التعليقات (3)

    11111111111111111111111

    ·منذ 8 سنوات شهرين
    والله وبالله وتا الله كنا عايشين رغم انف كل من يرفض هذه المقولة ....وهو يعلم انه يتحسر على ما فات ...من بات امنا في سربه معافا في بدنه عنده قوت يومه فكانما حيزت له الدنيا صدق رسول الله .وهذه كلها كانت عند اغلب شعبنا وكفانا ضحك على انفسنا وسعي وراء سيناريوهات المحافل الخبيثة التي اتت على اولنا واخرنا وارجعوا اذا كان فيكون ترجعوا لما كنا عليه......

    وائل الشامي

    ·منذ 8 سنوات شهرين
    حماه قصه لن ننساها فكان حديث جدتي كل وقت وكنت تقول اني في يوم من الأيام اضطررت انا إذهب من حي الفرايه إلى حي الشيخ عنبر وكان طريقي كلها على اجسام لم يكن في ارض امكان ادوسه غير أنني ادوس على جسس البشر توفيت جدتي هذا العام وقالت يابني ذكر أولادك بأن هذه المدينه تغيرت وتبدلت كلها بعد مجزره 82 كان هناك وهناك بشر وعائلة مثلكم وجاء الوقت ليكون ذكرى

    اغصان جعمور

    ·منذ 8 سنوات شهرين
    جزاكم الله خيرا ورحم الله ام حسن وجميع امهات الشهداء وجمعنا في الجنة النصر قادم باْذن الله
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات