مجتمع ديمستورا المدني

مجتمع ديمستورا المدني
في سياق وضعه للمسات الأخيرة لمؤتمر جنيف للمفاوضات بين النظام السوري والمعارضة، تفتّق ذهن المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان ديمستوار عن الكثير من البِدع وغرائب الأمور، وخلال دراسة هذه الـ (تفتيقات) تقفز واحدة منها أمام العين لتثير الكثير من الأسئلة والمخاوف، وهي المتعلقة بجماعات المجتمع المدني والسيدات.

دعا الرجل للمفاوضات ـ التي ستكون سرّية وبغرف مغلقة ـ العديد من الوفود باسم المعارضة أو (ممثلي الشعب)، أهمها وفد (الهيئة العليا للمفاوضات) الذي تتفق عليه غالبية قوى المعارضة، ووفد (موسكو) الذي لا تتفق عليه غالبية قوى المعارضة، وبالإضافة لهما دعا الرجل عدداً غير محدد من المعارضين المستقلين وأنصاف المعارضين وأرباعهم، ودعا الكثير ممن وصفهم بممثلي المجتمع المدني والأهلي، والكثير من النساء بحجة (الجندر).

في مؤتمره الصحفي التمهيدي لعقد المفاوضات والذي سبق المؤتمر بيومين أعلن ديمستورا أكثر من مرّة أنه سيدعو الكثير من جماعات المجتمع المدني، وهو منطق نظري سليم في حالة سليمة، فالمجتمع المدني عموماً هو النتاج الفكري الاجتماعي الأهلي المرتبط بالمجتمعات، لكن في الحالة السورية هو منطق أعوج لأن الحرب دمّرت وشوّهت مفاهيم المجتمع المدني وقضت على أي عقد اجتماعي يمكن أن يكون عماد هذه المؤسسات، التي كانت ومازالت تفتقد للعلاقة العميقة مع الشعب الذي لا يعرف حقيقةً إن كانت هي الحارس لمصالحه بالفعل أم لا.

ليس الهدف هنا التهجم على جماعات المجتمع المدني، فلربما كان بعضهم يقوم بدور ما، تربوي أو إغاثي أو فكري، ويجب من حيث المبدأ دعمه، لكن الاتكاء على حل ينطلق من بنى مجتمعية نظرية هشّة فردية بعيدة عن صميم مطالب الثورة يعني في الحقيقة زيادة العُقد لا حلّها.

أما بالنسبة للعدد الكبير من السيدات اللواتي أصرّ الرجل الإيطالي ـ السويدي على دعوتهن لأنه اكتشف أنهن يمثلن 51% من السوريين، فلا أعتقد أن عاقلاً يخالفه من حيث المبدأ، لأن كلامه سليم نظرياً في الحالة العادية، فالمرأة هي الأصل، في الأسرة والمجتمع والقضايا الإنسانية والاقتصاد وحتى في السياسة، لكن في اللحظة السورية الراهنة هو كلام غير واقعي ومثير للجدل.

لتبسيط الأمر يمكن لحظ أمرين هامين، الأمر الأول يتعلق بجماعات المجتمع المدني، فالأزمة السورية هي أزمة حرب، على رأس أولويات التفاوض لوقف إطلاق النار، وسبل مراقبته وضمان استمراره وعدم انهياره، والبحث عن طرق كبح جماح قوات النظام وميليشياته ومرتزقته، وإخراج مقاتلي حزب الله وميليشيات إيران الطائفية المتنوعة، ووقف الغزو التدميري الروسي، وطرد الإرهابيين الأجانب الذين حرفوا الثورة وغيّروا أولوياتها، ثم الانتقال لإعادة هيكلة الجيش وضم المقاتلين والثوار لما تبقى من بقاياه لتشكيل جيش وطني لا تملكه السلطة كما هو الأمر الآن، وكذلك ضبط الأجهزة الأمنية ولجمها وإلغاء الطائفية منها وتغيير مهامها ودمجها بمؤسسات الدولة، وجمع السلاح وإعادة الأمن، وهي كلها قضايا عسكرية بامتياز، وصحيح أن قضايا الإغاثة والمساعدات الإنسانية يجب أن تسير على التوازي، لكن هذه القضايا تبقى من مهام الحكومة الانتقالية المرتقبة، وكلها مهام تنفيذية مرتبطة بالجانب العسكري ومدى استقراره، وحتى تحين تلك اللحظة لا يبدوا أنه سيكون هناك دور أساسي للمجتمع المدني.

في هذا السياق تقول المعارضة السورية نفسها إن الكثير من مؤسسات المجتمع المدني الحالية هي (بيزنس) أو (دكاكين) تُعلن أهدافاً إغاثية أو إنسانية أو فكرية أو تربوية، لا تحكمها ضوابط ومعايير، وأصحابها لا خبرات لهم ولا تراكم معارف، يفتقدون للحرفية والمهارات الإدارية، وقليلة هي المؤسسات الجادة التي تعمل للإنسان، ولا ينخرها الفساد والمحسوبيات.

المنطق يؤكد أن الراهن هو للمفاوضات العسكرية والسياسية، لا للمفاوضات المجتمعية، التي لابد أن يبدأ دورها الهام في مرحلة لاحقة عند وضع القوانين وصياغة العقد الاجتماعي وإعادة كتابة الدستور، الذي سيوضّح دور المجتمع المدني ويحدد المؤسسات الضامنة لعمله والحارسة لمصالحه ومصالح أفراده، وعند بدء عملية الإعمار وإعادة بناء الدولة وترميم المجتمع بكل جوانبه، وهذا يدفع للتساؤل عن سبب إصرار المبعوث الأممي على الاستناد بشكل أساسي على جماعات المجتمع المدني الآن بالذات.

الأمر الثاني يتعلق بالسيدات الكثر اللواتي دعاهن ديمستورا من أجل توازن (الجندر)، وبهذا المقام يبدوا أن الرجل لا يدري أن (الجندر) هو بنية اجتماعية من الأفكار التي تُعرّف الأدوار ونظم الاعتقاد والمواقف والقيم والتوقعات للرجل والمرأة، وهو مبني على أساس المُثل الثقافية في مجتمع معين، وقد يقوده ويدافع عنه وينظمه الرجال أو النساء، لأنه ليس تمييزاً للجنس بل تطوير للعقلية، وليس شرطاً مُطلقاً أن تكون السيدات هنّ الأكثر قدرة على تحقيق حقوقهن، فكما أن عقول الكثير من الرجال العرب منخورة، عقول الكثير من النساء منخورة أيضاً، وتحمل نفس الأمراض الاجتماعية والقيمية والتاريخية، وعليه فلضمان حق المرأة و(توازن الجندر) وجب أن يكون اختيار المفاوضين أو المستشارين من ذوي العقول المنفتحة سواء كانوا رجالاً أم نساءً، لكن المبعوث الأممي أصرّ على تمييز النساء الآن بالذات بما يُشبه (الداعشية) الفكرية، مع أن دورهن الأساسي ـ كما جماعات المجتمع المدني ـ في مرحلة مُقبلة.

هناك قناعة على نطاق واسع بين السوريين بأن ديمستورا أقحم عن عمد جماعات المجتمع المدني الجدد والسيدات بدهاليز السياسة وتناقضاتها، ومناكفات الدول ومصالحها، ليجعلهم طرفاً إما مع هذا أو مع ذاك، وأبعد الجادين منهم عن مهامهم الأساسية، وأعطى شرعية للوهميين والخُلّبيين منهم، بهدف أن يستعين بهم لسد نواقص وخلل في تشكيل الوفود والأطراف المشاركة حيث لم يستطع سدها

التعليقات (1)

    ليل الانس

    ·منذ 8 سنوات شهر
    لماذا تتركون اللب وتتعلقون بالقشور نريد حلا مقنعا نريد وقف إطلاق النار والسلام وان اضطررتم لتقسيم سورية المهم أن نعيش بسلام
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات