حـلـب: الطـريـق الـدامـيـة الـى جـنـيـف

حـلـب: الطـريـق الـدامـيـة الـى جـنـيـف

حلب بيت القصيد، في الحملة العسكرية الهمجية لقوى الاحتلال الروسي الإيراني، وعلّ من المهم القول أن الأشهر الأربعة الماضية، من العمليات العسكرية البرية في ريف اللاذقية والقصف الجوي الذي يطال مناطق الشمال والشرق السوري، الذي يمنح قوات سوريا الديمقراطية مقدرة على التمدد، إنما يأتي في سياق استراتيجية روسية واضحة المعالم، تتمحور على إعادة إخضاع حلب لسلطة نظام الأسد، الذي فشل لسنوات في استعادة مواقعه في محيطها وداخل أحيائها، على الرغم من ضراوة المعارك وبشاعة المجازر والبراميل التي استهدفتها، بمباركة الأطراف الدولية قاطبة. 

حلب اليوم، هي عقدة الحلّ والربط، تريدها  موسكو لتعويم سلطة الأسد، وبث الأنفاس، في الجسد المتعفن، بعد أن افتقد جلّ أوراقه التفاوضية. وقد كشفت المباحثات الأولية في جنيف استماتة النظام في رفض كل شئ، يمكن أن يقود الى بدء المفاوضات، وبالتالي الحلّ. المشكلة الجوهرية هنا، مع السوريين وليست مع القوى الدولية، التي  تركت الحبل السوري على الغارب الروسي. بدت معالم تلك الأزمة بالوضوح منذ اتخاذ الهيئة العليا للمفاوضات – بغض النظر عن مجمل  ملاحظاتنا عليها -  موقفاً أصيلاً بإصرارها على وقف القصف، وفك الحصار.

والواقع، أن حلب بأريافها، والتي تستهدفها اليوم كثافة نيران غير مسبوقة، تحرق كل شئ وتهجرّ الناس، وتدمر ما تصل إليه البراميل والمقذوفات ذات القدرة العالية في تفتيت كل شئ، الهدف منه إرغام السوريين على القبول بأي شكل من الاتفاقات التي يمكن أن تُملى عليه، خلال الفترة القادمة. وهذا ما دأبت موسكو والنظام عليه استباقاً، باستخدام خطط عسكرية لاتُبقي ولا تذر، تاسيساً على الأهمية الاستراتيجية لحلب، بالنسبة لكل الأطراف الاقليمية، وباعتبارها اليوم مركز الثقل العسكري والعملياتي للمعارضة السورية. وهي تعمل في اتجاه انجاز مكاسب سريعة على الأرض، لذلك فإن الفترة الممتدة حتى 25 فبراير الحالي سوف تكون قاسية وشديدة من حيث كثافة الحشد العسكري والقصف على حلب شمالا وجنوباً بشكل خاص مايتيح لها الوصول إلى قلب حلب، والاستيلاء عليها، في ظل غياب أي دعم عسكري يُذكر لفصائل المعارضة المسلحة. يضاف إلى ذلك عدم وجود مرجعيات سياسية وعسكرية في حلب يمكن ان تتولى القيادة والتوجيه مواجهة القوى الاحتلالية المدعمة بكل وسائل التدمير.

لا تريد موسكو ولا النظام بالطبع إطلاق أية مفاوضات جادة في جنيف، لأن ذلك بداية الطريق لالتزام طويل الأمد، بما يمكن التوصل إليه أياً تكن صورته، ستفضي في الحدّ الأدنى إلى تنازل النظام عن بعضٍ من صلاحياته. ويبدو اليوم في ضوء التوسع في المواجهات العسكرية، أنهما لا يريدان هذا الحدّ الأدنى  من التسوية. التسوية التي تحذر منها المعارضة، بأنها ستُبقي على زمرة الطغاة والقتلة جزءاً من المرحلة الانتقالية، تبدو أنها مجرد تغطية للمزيد من تمسك النظام بالسلطة، وفي هذا السياق تصبّ أهداف استعادة المناطق لسلطة الأسد، وفي مقدمها حلب، بكل  ما تمثله  من دلالة جغرافية وسياسية وبشرية كبيرة ووازنة في سورية، سقوط حلب بيد النظام، يعني بكل وضوح ضياع كل شئ بالنسبة للثورة السورية.

جنيف مصدر خوف وقلق للنظام بلا شك، اليوم، ليس فقط نتيجة لترابط مقررات فيينا والقرار 2254، وكان واضحا مدى الإفلاس السياسي والإعلامي، مع عدم الاستهانة به. لكن ثمة خوف تاريخي متأصل في ذاكرة نظام الاستبداد الأسدي، من شئ اسمه جنيف!

عام 1993 شهدت جنيف لقاء مهماً بين بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، وطاغية دمشق الأكبر، ومؤسس الاستبدادية الدموية في تاريخ سوريا المعاصر " حافظ الأسد " تمخض عن إبقاء نظام الأسد، ذي دورٍ تابعٍ مهما توسع الهامش الممنوح له في المنطقة، وأن اسرائيل هي من تقرر اتجاهات اللعب فيها، وأن لها الكلمة الفصل في ما يتصل بأوهام وأحلام السلام المستحيل معها. كان " أسد لبنان " قد حثّ خطاه منتظراً رداً إيجابياً على مقترحاته بمقايضة مع اسرائيل يستعيد فيها الجولان مقابل سلام دافئ وعلاقات طبيعية .

لكن الصدمة كانت قاسية، وعاد بخفي حنين، وكان يعتقد بأن انفكاكه تلك الفترة عن موسكو غورباتشوف، وتوجهه للتعامل بعمق مع واشنطن، ستؤهله لدور أفضلي في المنطقة. فأصبحت صورة جنيف المدينة الهادئة، وذاكرتها السياسية، مصدراً للقلق والخيبة والمرارة. وبقيت كذلك، حتى اليوم، في ظل الوليّ الوريث، الذي جهد في التلاعب بمقدرات السوريين الثائرين على طغيانه، فحاول إفراغ مقررات جنيف1، والتحايل عليها لسنوات، كما أفشل التوصل الى نتائج إيجابية في مفاوضات جنيف 2. وهاهو اليوم يواجه تحدٍ من نوع آخر، لم يألفه منذ عاد المستبد الأب خائباً ليغرق في مرضه ودمويته، ويذهب. 

لم يستطع النظام أن يكرر لعبته مع السوريين، هذه المرة، فكان عجولاً في كشف رعونته ومواقفه دفعة واحدة قبيل بدء المفاوضات. وأمام رفضه التعاون او الاستجابة، في أي التزام جزئي أو مرحلي، بدت المجموعة الدولية الراعية للمفاوضات، في موقف حرج، لا يمكن الخروج منه، سوى بتعليق جنيف3، وحظي ذلك بتوافق اميركي – روسي، عززه ما تسرب عن كيري قوله، بما معناه: على المعارضة أن تتحمل نتائج ذلك.

 الحرائق التي تلتهم كل شئ في سورية، والمعارك والقصف الجهنمي على حلب، هو الوجه الآخر للمعادلة التي يتعطل فيها إمكان إطلاق العملية السياسية.

ليس  مستبعداً خلال الفترة القادمة- وملامحه قائمة - الاستمرار في الذهاب الى تسوية من نوع آخر، هو مزيد من العمليات العسكرية، التي تتوسع شيئاً فشيئاً عبر التمدد الروسي في كل الاتجاهات. فهل ستمر الطريق الى جنيف هذه المرة عبر حلب، وما يستجد فيها  من تطورات ؟!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات