سورية ولعبة الأمم

سورية ولعبة الأمم
تقول الكاتبة "علا عباس" في مقال لها بصحيفة "العربي الجديد" إنه عندما نستمع إلى وسائل الإعلام تكرّر مصطلح لعبة الأمم بشأن طريقة تلاعب الدول الكبرى بالدول الصغيرة، وتدخلها في صراعاتها ومسارات الأحداث فيها، نتخيّل، مباشرةً، مجموعة غامضة ومخيفة من الرجال، تجلس بطريقة عشوائية في غرفةٍ متوسطة الحجم، إضاءتها خفيفة، وتحيط بها على الجدران الأربعة مكتبة من الخشب الفاخر المنحوت، وفي وسطها طاولة سميكة داكنة اللون عليها خارطة للعالم، ويضحك هؤلاء الرجال الغامضون، فيما يتحكمون بمصائر الشعوب. وكثيرون منا يجمح خيالهم، ويتصوّرون على هذه الخارطة مجموعة من القطع الصغيرة الشبيهة بقطع الشطرنج، ترمز لبلداننا وجماعاتنا، يحرّكها هؤلاء اللاعبون وفق هواهم، وتتحرّك معها حياتنا ومستقبلنا. 

ويحقق هذا المصطلح وتنويعاته هدفاً رئيسياً، هو إعطاء الناس، في كل أصقاع الأرض، شعوراً بأن قوة كبرى تحدد كل شيء، وترسم كل شيء بدقة، وأن هدف كل ما حصل ويحصل تحقيق مصالح هذه القوة (أو القوى) الكبرى، وتشعر الناس أيضاً بأنهم غير مسؤولين عما يجري، وغير قادرين على التحكم به، وبالتالي، تدفع الناس إلى الاستسلام، والاقتناع بلا جدوى أي شيء. 

بشكل أو بآخر، فإن في تخيل الأمور بهذا الشكل السينمائي شيئاً من الحقيقة، وهو تخيل رمزي لما يجري فعلاً، فهناك لعبة أمم، ونحن قطع شطرنج فيها، ومصائرنا تحدّدها محصلة تضارب مصالح القوى الكبرى، وتأثيرنا على مجريات الأمور محدود، إنْ لم يكن معدوماً. 

خمس سنوات من الأزمة السورية، وتكرار الخط البياني للأحداث، والطريقة التي يولد بها الأمل، ثم يتضاءل فيتلاشى، تثبت ذلك، فكل بضعة أشهر، يرتفع الحماس دولياً، فتصرح الولايات المتحدة بضرورة الوصول إلى حل سياسي، ثم تصرح روسيا بصوت أعلى، ثم تبدأ التحركات في الأمم المتحدة وفي بقية الدول، ويعلن عن مكان جديد ومؤتمر جديد، وتنشغل وسائل الإعلام بالتحليل والتوقع، يتمسك سوريون كثيرون بالفرصة، ويخلقون لأنفسهم أملاً جديداً، ويؤجلون موتهم أو رحلتهم في المجهول، وشيئاً فشيئاً يبرد هذا الأمل حتى يتلاشى، وحين يصل منسوب اليأس إلى القاع، تعود الدورة من جديد. وهكذا، وفي أثناء ذلك، تستمر البراميل في السقوط على المدن، وتستمر الأشلاء في التناثر، ويستمر الطوفان البشري الهارب من الجحيم بالتشتت في أنحاء العالم، يستمر الجوع والتعذيب والخوف، يستمر كل شيء في مكانه. 

هي اللعبة إذاً، والمصطلح صحيح، على الرغم من الجزء الخيالي منه، وبالتالي، يمكن لنا اشتقاق مصطلحات أخرى كثيرة على منواله، مثل إجازة الأمم، واحتضار الأمم، ووظائف الأمم، فضمن هذه اللعبة يكون لكل أمة وظيفة، تؤديها لكي تستمر اللعبة، فواحدةٌ تصنع السلاح، وأخرى تشتريه، واحدة تعطيه للمتحاربين، وواحدة تكشفهم، واحدة تتشاجر مع الأخرى، والاثنتان تدعوان إلى السلام، الكل يرفع شعاراً موحداً، والكل يفعل ما يناقضه. 

أوهمنا الإعلام أن مؤتمر جنيف سيكون الحل، تم تضخيم أهميته، وبث إيحاء بأن الأمم اتفقت، أخيراً، على أنه لا بد من إيقاف هذا الموت الذي يلتهم السوريين، وبدأت دوامة التحضير، وبدأت كل أمة بتنفيذ وظيفتها، فهذه لا توافق على شكل الطاولة، وتلك تريد تعديل حجم القاعة، وأخرى تطلب توسيع الباب، ومن عرقلة إلى عرقلة، يخفت وهج الأمل، ويشعر السوريون، من جديد، بأن لا معنى لهذا المؤتمر، وهو لن يكون أفضل من المؤتمرات التي سبقته، فينزل منسوب التوقعات منه، ويستسلم الناس من جديد. 

قال الروس، وبوضوح تام، إن تشكيلة وفد المعارضة شأن أممي، وهم حين يقولون ذلك فهم يقصدون أن تشكيلة وفد المعارضة شأن روسي، فكلمة أممي تعني أن يوافقوا هم عليه، وما دام وفد النظام شأن روسي، فقد صرنا إذاً في عملية روسية صافية، على العالم أن لا يتدخل فيها، فهي، في النهاية، شأن روسي داخلي، طائراتها تسيطر على الأجواء، وصواريخها تضرب في كل مكان من الأرض السورية، وهي تفرض على النظام قراراته، وتكاد تفرض على المعارضة شكل (ونوع) معارضتها ومطالبها وشروطها. 

هي الأمة التي تقوم بالوظيفة الكبرى، الآن، فيما تبدو الأمة الأكبر وكأنها تتابع إجازتها السنوية المستمرة منذ خمس سنوات. وتتابع باقي الأمم الأصغر أداء وظائفها الثانوية، من شد وجذب، وتأخير ومماطلة، وها هو دم السوريين يضيع بين القبائل.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات