المتاهة السورية تغيّر قواعد الحرب الباردة

المتاهة السورية تغيّر قواعد الحرب الباردة
شكّل انتظار نتائج مؤتمر ميونخ الأمني حول سوريا هاجساً للسوريين والدول الإقليمية، الذين كانوا ينتظرون ما سيخرج به كل من "سيرغي لافروف" وجون كيري" حول المشهد المستعصي في سوريا، والذي بات أكثر تعقيداً بعد تأجيل مفاوضات جنيف3 إلى 25 شباط الجاري، على أمل قلب الموازين كما يراها المبعوث الدول لسوريا "ستافان دي ميستورا"، خاصة وأنه هناك حُجب قد كُشفت بشكل أحرج الإدارةالأمريكية على لسان رئيس دبلوماسيتها "كيري"، الذي انتقد الهيئة العليا للمفاوضات على انسحابها من جنيف، وأنهم المسؤولون بشكل مباشر عما يحصل في سوريا.

لم تكن تسريبات كيري زلّة لسان، وإنّما "دردشة" ليست للنشر كما جاء في تبرير الخارجية الأمريكية،وأنه يحاول توصيل الفكرة التي شاركه بها لافروف عن سحق المعارضة المسلّحة خلال ثلاثة أشهر،وهو ما جعل المحلّلين السياسيين المقربين من مصنع القرار الروسي يتحدثون وبشكل واضح أن روسيا تريد الانتصار للأسد عبر القصف العنيف وتقدم قوات النظام السوري مع المليشيات الموالية له،لتذهب المعارضة من أجل التوقيع على عملية السلام ضمن الرؤية الروسية القاضية ببقاء الأسد ثم البدء بالحرب على الإرهاب،لكنهم تمادوا أكثر في تحليلاتهم حتى وصلوا إلى أن سوريا تاريخياً غير موجودة، وهي حالياً روسيا الجديدة!

ولعلّ تصريحات رئيس الوزراء التركي "أحمد داود أغلو" عن إذلال روسيا في حربها الدائرة على أرض سوريا، وتشبيه هذا الإذلال بأفغانستان يحتمل تفسيرات أقلّها أن تركيا تريد منح المعارضة السورية المسلّحة صواريخ مضادّة للطائرات، كتلك التي حصلت عليها أفغانستان لكسر السلاح الجوي السوفييتي، الذي أنهى انتصارات روسيا عبر الجو، ليتم كسر الجيش الأحمروإخراجه من الأراضيالأفغانية وهذا ما لم نره مثلاً إبان الاحتلال الأمريكي لأفغانستان. أما الاحتمال الثاني الوارد أيضاً أنه هناك تدخل عسكري بري تركي مساند للمملكة السعودية، التي أعلنتأنها لن تتراجع عن التدخل البري في سوريا بعد التنسيق مع التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة، وهذا ما أعلنه وزير خارجية تركيا "جاوش أغلو"، من خلال تصريحهأن قوات برية سعودية ومقاتلات، ستصل قريباًإلى قاعدة إنجرليك التابعة لحلف الناتو بعد ترحيب "أشتون كارتر" وبز الدفاع الأمريكي لهذه الفكرة، التي قد تقضي على تنظيم الدولة.

في الحقيقة أن كثرة الحديث عن قرع طبول الحرب العالمية الثالثة بعد تصريح رئيس الوزراء الروسي "ديمتري مدفيدف"، الذي وصف التدخل في سوريا من قبل دول أخرى قد يوقع حرباً عالمية ثالثة، وهو ما يمكن أخذه ضمن الكلام الإعلامي فقط،لأن رئيس الوزراء الروسي مغيّب تماما عن الساحة الدولية لصالح تسليط الضوء على "بوتين"، وهنا من الواجب السؤال من هم أقطاب الحرب العالمية الثالثة، أن كان هناك توافق وتنسيق عالٍ بين روسيا والولايات المتحدة؟ وبالمقابل ليس هناك منافس دولي لهذا التنسيق كما كان في حالة الحرب الأولى والثانية حيث كانت ألمانيا (الإمبراطورية ثم النازية) القطب المحوري في الحرب ..

من المبكر جداً الحديث عن مواجهات ترقى إلى حرب عالمية، على الرغم من المواجهات الإعلامية التي بدأت تتصاعد بين حلف الناتو وروسيا، وإن كان بشكل غير مباشر، وربما كان إعلانالأمين العام لحلف الناتو عن عدم رغبة الحلف الدخول مع روسيا في مواجهة مباشرة،إلاأنالحلف لن يسكت عن الاعتداء على حلفائه وأنه سوف يرد بقسوة، هو مجرّد زوابع إعلامية لطمأنة تركيا معنوياًبأن الحلف معها. سيما وأنّه ومن المعروف جداًأن الناتو قد خذل تركيا في أكثر من موقف، كان آخرها وقوف الحلف على الحياد من موضوع إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، حيث استمرّت روسيا في خرق الأجواء التركية بعد وضع منظومة صواريخ ( أس 400) في جهوزية تامة للتصدي لأي طائرة تركية قد ترتكب ذات الفعل.

وصل التصعيد في عدة مرات بين قطبي السياسة الدولية  في القرن الماضي (الاتحاد السوفيتي - الولايات المتحدة) إلى حد التهديد باستخدام السلاح النووي، كما حدث في حصار برلين إبان انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية المدمّرة، ثم الأزمة المتفاقمة في برلين وبناء الجدار الشهير، ثم أزمة الصواريخ الكوبية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد كاسترو (إنزال خليج الخنازير) ،غير أن هذا التصعيد الخطير لم يصل إلى مرحلة الحرب العالمية على الرغم من التهديد بالسلاح النووي،وهما الدولتان اللتان كانتا ضمن منظومة الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.

فمع كل أزمة وتصعيد يتجنب الطرفان الانغماس المباشر في هذه الأزمة،أوعلى الأقل يقف أحد الطرفين خارج الوحل كي لا تصل حدود المواجهة، ففي احتلال العراق عام 2003 وقبله عملية "عاصفة الصحراء" كانت روسيا خارج اللعبة تماماً، لكنها رفضت الممارسات الأمريكية مع حلفائها، وبالمقابل انغماس روسيا في جورجيا وأوكرانياوسوريا،يجعل بالضرورة انسحاب الولايات المتحدة خارج اللعبة، ولكن مع استمرار الرفض لهذه الممارسات تجنباً للصدام الذي قد يكون مدمراً للطرفين، تبقى المواجهة إعلامية من أجل الهيبة الدولية.

من الواضح تماماًأن متاهة الحرب السورية والتداخل المعقّد بين القوى الدولية والحلفاء الإقليميينوالإطراف المتصارعة في الميدان، أجبرت الجميع على فرض حرب باردة بمفاهيم جديدة ليس فيها قطبين واضحين للجميع،وإنما حرب باردة تتشابك فيها المصالح لقتالعدو افتراضي هو شماعة التدخلات العسكرية والسياسية دون اللجوء إلى البوح بالعدو الحقيقي لكسر المصالح، وليكون الجميع لاعباً أساسياً وصاحب نفوذ عسكري لتثبيت المواقع على أقل تقدير، ولعل تنظيم الدولة هو الرابح الأكبر من هذه الحرب الباردة!

ويبقى الغزل الإيراني للسعودية، من خلال الإعلانعن استعدادها للتعاون معها في سوريا والتقارب التركي للإمارات عبر الاستثمارات، وموافقة الروس على وقف الأعمال العدائية كما جاء في مؤتمر ميونخ، تؤسس لفكرة أن مفهوم الحرب العالمية الثالثة غير وارد، وأن حربا ًباردة تسود المنطقة والعالم ستؤدي إلى حل سياسي يتوافق دولي –إقليمي، ووقف الحرب تجنبا لأي صراع يدمّر الجميع،يضع من خلاله الروس خارطة الطريق، مع تنفيذ الخط الأحمر السعودي بإنهاءالأسد وحرمان الأكراد من دولتهم التي يروّجون لها تحت الضغط التركي، ليعود الحل إلى حكومة وحدة وطنية تتضمن شخصيات من "عقلاء النظام والمعارضة" بحسب معاذ الخطيب الذي رأي يوماً أن "الشمس تشرق من موسكو"!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات