قتل الأحلام

قتل الأحلام
القسوة والعنف والبطش الذي تعرض له الشعب السوري خلال خمس سنوات، بل بالأصح خلال خمسة عقود، لم ينجح في قتل أحلامه وأمنياته وآماله، بل ظل يحلم بالحرية والكرامة ويأمل بغد أفضل وأكثر إنسانية، وكانت أحلامه وأمنياته بسيطة حيناً ومتسامحة ومتفائلة أحياناً أخرى.

خلال السنوات الخمس الأخيرة، حلم السوريون أحلاماً مشروعة كثيرة رغم يقينهم بصعوبة تحقيقها، فتمنوا بداية أن يتجاوب النظام مع مطالبهم، وأن يستيقظ ضمير جماعته، وأن يرأف المجتمع الدولي بهم، وأن تصحو معارضتهم، وغيرها الكثير من الأمنيات/ الأحلام التي لم تتحقق، وهم بهذا الإصرار على الحلم لم يكونوا قط كمن يضحك على نفسه، بل كالغريق المتمسك بقشّة، على أمل أن تحصل المعجزة وتُنقذ هذه القشّة بلدهم من الدمار.

في بداية الثورة حلم السوريون بالحرية، واعتقدوا أن النظام سيقبل بالتغيير والإصلاح وإحقاق الحق، وسرعان ما تبيّن لهم أن حلمهم هذا كان كابوساً للنظام، الذي فتح صندوق (باندورا) ليُخرج منه كل شروره وعنفه، وبعد فترة وجيزة حلموا بأن ورودهم التي وزّعوها على عناصر الجيش ستفعل فعلها، فكان الرد على حلمهم هذا استخدام الأسلحة الثقيلة ضدهم.

فيما بعد اعتقد السوريون أن (المجلس الوطني) يُمثّلهم، وحلموا بمعارضة قادرة على تحصيل حقوقهم، لكن التركيبة العشوائية للمجلس والسطحية السياسية لأعضائه والمحسوبيات والمصالح الشخصية و(المراجل) الفارغة أنهت هذا الحلم.

بعد ذلك أيضاً، هلّلوا وأثنوا ومدحوا ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وقالوا إنه ممثلهم الشرعي، واعتقدوا أن حلمهم بإيجاد البديل بات قاب قوسين أو أدني، لكن الفساد المُعمّم فيه، والأنانية التي نخرته والارتهان للممولين والسذاجة السياسية لغالبية أعضائه وهرولتهم نحو المصالح والثروات أفشلت الأمنية الجديدة.

في مراحل مختلفة، حلم كثير من السوريين بأن ينقلب العلويون على النظام، لأنهم فهموا أنهم عالقون بشباكه ومتورطون بخططه ربما دون وعي أو بفعل تحريض النظام، لكنهم تخلّوا عن حلمهم هذا بعد أن اكتشفوا أن النظام أسر الطائفة نهائياً وجيّش الطاقات الشابة فيها لخدمة حربه وحوّلهم لأدوات قتل لا وقت لديها للتفكير بنتائج الحرب العبثية ولا بأهمية العيش المشترك.

في نفس السياق، اعتقد كثير من السوريين أن بورجوازية دمشق الحالية هي نسخة عن البورجوازية الدمشقية الوطنية العريقة، واعتقدوا بأنها ستلعب دوراً هاماً في الثورة، وحلموا بالإضرابات والعصيان المدني لأجل خاطر أهالي درعا وحمص وحماة، لكنّ حلمهم تبدّد حين أدركوا أن هذه البورجوازية الجديدة عفنة متفسخة صنعها النظام خلال خمسة عقود لتكون غطاءً لفساده ونهبه وجشعه.

مع بدء سطوع نجم جبهة النصرة، اعتقد الكثير من السوريين أنها جزء من الثورة، وصاروا يدعمونها ويُروّجون لوطنيتها، وحلموا بعدل وصرامة عمر بن الخطاب، لكن ممارسات هذه الجبهة وتشددها وديكتاتوريتها وهوسها الديني والسلطوي أيقظتهم من كبوتهم، ليكتشفوا أن من حلموا بها ما هي إلا تنظيم قاعدي لا يصلح لتحقيق أحلامهم بالحرية والديمقراطية والتعددية.

مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، لم يخطر ببال السوريين أن يقاتلوه، لأنهم اعتقدوا واهمين أنه سيساعد في إسقاط النظام، فأجّلوا الصدام معه لمرحلة ما بعد التغيير، لكنّ الفكر الطائفي المتطرف، والتصرفات الهمجية اللا إنسانية لهذا التنظيم وهدنته الدائمة مع النظام، أزالت هذا الوهم والحلم وأعادتهم للواقع الذي أصبح أقسى مما كان.

في مراحل مختلفة، اعتقد السوريون أن روسيا يمكن أن تغير موقفها من النظام السوري، ويمكن أن تضغط عليه لتدفعه للتخلي عن السلطة، وحلموا بروسيا السوفييتية حليفة شعوب العالم الثالث المقهورة ونصيرة الثورات وداعمة البروليتاريا التي تحترم إرادة الشعوب، لكن الحلم تبدّد حين أدركوا متأخرين أن روسيا البوتينية هي حليفة وفيّة لأكثر الأنظمة الديكتاتورية سوءاً في العالم ومن بينها النظام الذي ثاروا ضده.

ولأنهم يُدركون المظلومية التي تعرّض لها الأكراد خلال حكم البعث، حلم السوريون بدولة يعيش فيها الكردي والعربي والآشوري كأخوة متساوين، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، كما حلموا بتداول السلطة من رئيس سوري ـ عربي لآخر سورية كردي لثالث سوري ـ آشوري، لكن أحلام بعض القوى الكردية الانتهازية المريضة والمتعصبة، وفشل المعارضة السورية بتقديم ضمانات حقيقية موثّقة للأقليات القومية الأخرى، قضى على هذا الحلم، وسقط حلم الرؤساء الوطنيين دفعة واحدة، عرباً وأكراداً وآشوريين.

كذلك بنى السوريون في مراحل سابقة كثير آمال على جماعات المجتمع المدني والأهلي، واعتقدوا أن هذا النمط التنظيمي سيرتقي بالثورة الآن وبسورية لاحقاً، لكن الفساد والهدر والمنافع والجمعيات الإنسانية والإغاثية الوهمية، والجيوب التي انتفخت، دمّرت هذه الآمال وفتحت أعينهم على واقع صعب مرير.

بعد تدخل روسيا عسكرياً، اعتقد غالبية السوريين أن النفوذ الإيراني في طريقه للانتهاء، وأن طهران رضخت للأمر الواقع وستسحب ميليشياتها وتوقف تدخلها وتتراجع عن مخططاتها الطائفية، وحلموا بأن سورية قطعت (الهلال الشيعي الفارسي)، لكنهم استيقظوا على حقيقة أن إيران كالضرس التالف، لا يُعالج بالدواء وإنما بالاستئصال.

قبل شهرين، اعتقد السوريون أن الهيئة العليا للمفاوضات هي الحالة الأكثر جدّية وقوة، وبدأوا يحلمون بمفاوضات يديرها رجال أقوياء أكفاء قادرون، والخشية أن تُعلن الهيئة إفلاسها وتظهر تناقضاتها وتغرق بالأنانية والفردية والمؤامرات، عندها سيضيع على السوريين حلم آخر هم بأمس الحاجة إليه.

التعليقات (1)

    ماء السماء الصافي

    ·منذ 8 سنوات شهر
    نموت ونحن نحلم خير من العيش بلا حلم وخير من العيش بخنوع لأن الإنسان بلا حلم الحرية ذكرى إنسان
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات