الدستور الجريمة

الدستور الجريمة
في محاولة لإقناع المجتمع الدولي بمرونته وعدم تمسكه بالحكم، قال الرئيس السوري إنه يوافق على حكومة انتقالية تحت سقف الدستور الحالي، أي أنه تنازل ووافق بعد طول تردد على تشكيل وزارة جديدة تخضع للدستور القائم وتحترمه وتسترشد به وتخضع لشروطه، وهو نفس الدستور الذي وصفه  المعارضة بأنه "جريمة موصوفة".

بعد نحو عام من انطلاق الثورة، أعلن النظام السوري عن تشكيل لجنة رئاسية لصياغة مسودة دستور جديد، عيّنها الرئيس وخضعت بالمطلق لإرادته، وأملاها أهم بنود هذا الدستور العتيد، ثم أشرفت أجهزته الأمنية على استفتاء شكلي جرى تحت وقع قذائف الدبابات، فكانت النتيجة دستوراً غرائبياً منحه شخصياً كل الصلاحيات التي يمكن تخيُلها والتي لا يمكن أن تتوفر لأي رئيس آخر في العالم.

غيّر الرئيس الأسد الدستور بشروطه ووفق ما يناسبه، وتجاهل كل الضغوط الداخلية والدولية التي يتعرض لها نظامه، واعتبر شخصياً أن هذا الدستور "وضع البنية القانونية والدستورية للانتقال بالبلاد إلى حقبة جديدة"، لكنها بالفعل كانت حقبة جديدة من سلطة الرئيس ـ الإمبراطور.

منح الدستور الجديد الذي وضعه الأسد الابن صلاحيات واسعة جداً، أكثر من أي ملك في العصور الوسطى، فتنص مواده (حرفياً) على أنه يتولى تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم وقبول استقالتهم وإعفاءهم من مناصبهم، كما تنص على أنه من يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها، وهو الذي يُعلن الحرب ويعقد الصلح، ويخوّله هذا الدستور الحق بإعلان حالة الطوارئ وإلغائها، والحق أيضاً باعتماد رؤساء البعثات الدبلوماسية لدى الدول الأجنبية، ويضعه قائداً للجيش والقوات المسلحة، كما يمنحه الحق بتعيين الموظفين المدنيين والعسكريين كلهم وينهي خدماتهم، ويمنحه حق حل مجلس النواب، وأن يتولى السلطة التشريعية بدلاً عن مجلس النواب، وتؤكد مواده على حقه في اقتراح تغيير الدستور بموافقة نسبة من أعضاء مجلس النواب، والأهم أنه برأه من أي جريمة يمكن أن يرتكبها بأن اعتبر الرئيس غير مسؤول عن أعماله في إطار ممارسة صلاحياته!

ضم الدستور السوري الحالي مفارقات لا يحويها أي دستور آخر منذ اختراع الدساتير، فهو أول دستور في العالم فُصّل على مقاس الرئيس الحالي وأشار له شخصياً ضمن مواد الدستور حين أكّدت إحدى مواد الدستور على حقه بالترشح للانتخابات المقبلة لدورتين مقبلتين، كذلك سمح هذا الدستور بالجمع بين السلطة التنفيذية (منحه حق تعيين أعضاء الحكومة وعزلهم) والسلطة التشريعية (منحه الحق بتولي السلطة التشريعية بدل رئيس مجلس النواب) والقضائية (منحه حق الهيمنة على المحكمة الدستورية العليا)، كما منحه الحق بتعديل الدستور متى شاء، ولم يسمح للأغلبية النيابية الفائزة أن تُسمي الحكومة أو تختار الوزراء أو تُحاسبهم لأن الأمر محصور بيد الرئيس، كما أن الحكومة التي يختارها لا تحتاج لثقة مجلس النواب.

كان دستور الأسد الابن هو الدستور الوحيد في العالم الذي أتبع سلطات الرقابة والتفتيش لنفس الجهة التي تخضع للرقابة، وهذا مخالف لأهم مبادئ الرقابة ويشجع الفساد، حيث وضع تحت إشراف الرئيس المحكمة الدستورية العليا التي يمكن لها أن تُحاكمه وتُحاسبه، فهو الذي يعيّن أعضاءها ويفصلهم متى شاء، أي أنه الخصم والحكم في نفس الوقت.

صحيح أن الدستور ضم بعض المواد الني لها علاقة بضرورة احترام الحريات الشخصية والسياسية والتعددية الثقافية والحقوق القومية، والمساواة وتحريم الاعتقال التعسفي والتعذيب، وحرية التظاهر وتكوين الأحزاب، إلا أن القوانين التي أصدرها خلال الأزمة وخاصة قانون الإرهاب عطّلت كل هذه المواد دفعة واحدة، ولا حاجة للقول بأن أجهزته الأمنية والعسكرية وميليشياته صارت هي الدستور، وصار شرط بقاء المواطن السوري على قيد الحياة هو أن يبقى تحت سقف الدستور، أي تحت سقف هؤلاء مجتمعين، وأسماه النظام (سقف الوطن).

يريد النظام السوري إنهاء الأزمة السورية تحت سقف الوطن، وسمح للمعارضة أن تشارك بحكومة انتقالية تحت سقف دستوره، وهو يعتقد أنه من الأفضل لهذه المعارضة أن توافق على التشاركية وتنسى نوعية وطبيعة ومرجعية وسقف دستوره.

خلال حكم حافظ الأسد، طالب السوريون مراراً بتغيير الدستور ليكون أكثر ديمقراطية ومدنية، واحتجوا خصوصاً على المواد التي تتوج حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، وشددوا على ضرورة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وتحديد سقف عدد مرات ولايته، وانتقدوا نظام تعيين الرئيس باستفتاء لا بانتخاب، فأتاهم الأسد الابن بدستور جعلهم يترحمون على الدستور السابق ويتأسفون لتغييره.

صدر الدستور السوري في مرحلة ثورة شعبية ضد النظام، وصنعته سلطة يرفضها الشعب، ولم تشارك في وضعه أياً من قوى المعارضة، دستور جمع بيد الرئيس كل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) التي من المفروض أن تكون مستقلة، دستور جعل الرئيس (القائد الإله)، عملياً وقانونياً، ولم يكن إلا وسيلة لنقل سورية من مرحلة الحزب القائد للدولة والمجتمع إلى مرحلة الرئيس القائد للدولة والمجتمع.

من نافل القول أن الدستور السوري الحالي لا يمكن إصلاحه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحقق أدنى مطالب لأدنى شعب في العالم، ورغم هذا يتمسك النظام السوري به ويريد أن تتشكل الحكومة الانتقالية تحت سقفه وتخضع لبنوده، أي يريد أن يهيمن على هذه الحكومة وعلى شخوصها وسياساتها وقراراتها ونتائجها، من صغيرها لكبيرها، في فكرة عبثية لم ولن تمر على السوريين ولا على المجتمع الدولي الذي ينظر بأزمتهم.

ومن نافل القول أيضاً أن السوريين دفعوا ما يقرب من نصف مليون قتيل من أجل إسقاط النظام، وبالتالي من الصعب الاقتناع بأن عاقلاً منهم سيقبل بالعودة صاغراً للوقوف تحت سقف دستور شمولي وقوانين ومحاكم استثنائية وسياسات تمييزية.

التعليقات (1)

    ماهر ابو كريم

    ·منذ 8 سنوات شهر
    دستور السفاح الاسد ... هذا ملخص الملخص .. ان شاء الله هو دستور سورية الحرية وقريبا ..
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات