حريق العصرونية وجمر دمشق الذي لم ينطفئ

حريق العصرونية وجمر دمشق الذي لم ينطفئ
ببساطة، يمكن لأي كان أن يستدعي الكثير من الأفكار التي تحض على كراهية دمشق، والتشفي بها بعد حريق سوق العصرونية، إذ يمكن لهذا وذاك اعتبار دمشق محض شريحة التجار المتحالفين مع النظام، وأنها  فقط أولئك السوريين  الخانعين الذين لم يثوروا عليه، ويمكن لهؤلاء أيضاً تسويق كونها قلعة النظام، ومقر مؤسساته، وحصن أفرعه الأمنية، وسجونه ومعتقلاته! ويمكن لهؤلاء اعتبارها المدينة التي تراوغ وتنتهز، إلى حد الاستكانة والرضوخ وأنها في النهاية أدارت وجهها للثورة، ولهذا فإنها تستحق أن تنال مصيرها!

كل هذه الإدعاءات والحجج رصدها السوريون في الأيام السابقة بعد حادثة حريق السوق، التي ما تزال أصابع الاتهام فيها تشير للنظام ذاته، وللميليشيات الطائفية الخادمة للمخطط الإيراني الواضح للعيان، والهادف إلى تغيير ديموغرافيتها.

 وبخلاصة واضحة يمكن القول: إن هؤلاء الذين نشبوا مخالب ادعاءاتهم في جسد الروح التي تسمى دمشق، يقومون بحملة تساند أهداف النظام الرامية لعزل المدينة عن سياق معاناة السوريين، وجعلها خارج فعل الثورة المستمرة إلى حينه، وبما يخدم توجهاته التي رسمها  منذ البداية، وعمل بها بكامل قوته وطاقته أملاً منه في تطويعها وجعلها خارج الحدث.

لم تكن دمشق ومنذ تاريخ 15 أذار 2011 خارج حراك السوريين، لا بل إن إرهاصاته الأولى بدأت فيها، وفي شوارعها، وبالتوازي مع غالبية المدن الأخرى، عرف السوريون معنى الثورة، فهي المدينة التي جمعت أبناء كل المناطق، في بوتقة واحدة، فكانوا يتظاهرون فيها جنباً إلى جنب، رغم أن غالبيتهم لم يولدوا فيها، ولم يُعتَبروا في يوم من الأيام كدمشقيين،لافي منبتهم، ولا في مآلاتهم، ولا في السجلات الشخصية، أو دوائر النفوس.

 كانوا يترددون إلى مناطقهم لكنهم دائماً كانوا يعودون إليها، تلك المدينة الحاضنة للجميع، وكأنها أمهم، أو معشوقتهم الأبدية، وكأن كل مصائر حياتهم مشدودة بحبال إليها أو مرهونة بها، فعبر تناقضات أزقتها وشوارعها، ومتضادات ضفافها تكونت ملامحهم، وتشكلت نفوسهم في تضاريسها.

 بعد أن باتت تاريخياً ومنذ سبعينات القرن العشرين مقسمةً بين المدينة القديمة ومعها تلك الأحياء التي أنشأت في أيام الانتداب الفرنسي وعهد الاستقلال خارج السور، وبين الأجزاء المستحدثة في ضواحيها القريبة كتجمعات مساكن الموظفين، والجمعيات المخصصة للجيش والشرطة، وكذلك أحياء المخالفات التي رعاها النظام الاستبدادي تاركاً إياها تتمدد لتطوق العاصمة من جهاتها الأربع.

 وعي أجيال كاملة من الشباب السوري الثائر نشأ في حيز دمشق الجغرافي والإنساني هذا، فلم تكن بالنسبة لهم عدواً أو هدفاً يجب تناوله، بل كان هناك إدراك عميق بأن معركة الثورة فيها هي من أصعب وأقسى المعارك، وأن تركيز النظام كله سيكون على ثبات مواقعه فيها، فهي تحمل بالإضافة إلى كونها العاصمة، بعداً رمزياً سيخلخل الكثير من حيثيات وجوده في حال تم دحره منها، ولهذا فإن العودة إلى الآلية العنفية المروعة التي اتبعها النظام في تفكيك الحراك الثوري الذي نشأ واشتد عوده فيها، توضح كيف أن المخطط الذي طبقه كان يهدف إلى تدمير وقتل كل مقومات الثورة فيها، وإلى إغراقها بالمعاناة الشديدة، في ظل نزوح الملايين إليها بعد تحول غالبية المناطق السورية إلى ساحة لحربه على الثورة.

تجربة (تنسيقية أحياء دمشق) التي ظلت الأجهزة الأمنية تلاحق أفرادها حتى أطبقت على الكثير منهم، ومعها أيضاً تجربة مجموعة (الشباب السوري الثائر) التي تم اعتقال غالبيتها، ليقضي بعضهم في السجون تحت التعذيب، توضح كم كان ثمن العمل الثوري في المدينة كبيراً وقاسياً، وما جرى على هاتين المجموعتين طبق على كل التنسيقيات والتجمعات، كل هذا حدث في العامين 2011 و2012. وبعد أن تحولت مناطق ريف المدينة إلى ساحات حرب حقيقية، كان من الواضح أن النظام لن يهمل أو يترك أي من الناشطين في المدينة، فتم تقطيعها إلى أجزاء صغيرة عبر نشر مئات الحواجز الثابتة والطيارة، والتي تقاسمتها أجهزته الأمنية مع الميليشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانبه، حيث أمعن هؤلاء معاً في محاولاتهم إذلال المواطنين، وإجبارهم على الرضوخ، ورغم كل هذا لم تكن دمشق راضخة أو مستكينة، ومن يظن هذا لا يعرف كم يبذل الشباب الذين بقوا فيها على عهد ثورتهم، في سبيل القيام بأي فعالية تحيي روح الثورة فيها.

الوقوف مع الدمشقيين في مواجهة رغبة النظام الدائمة في إذلال المدينة وتطويعها، يعني فيما يعنيه أن يكرس السوريون الكثير من جهدهم في سبيل مقاومة محاولات تغيير واقعها، بعد أن ظهر هذا الأمر كهدف عميق للقوى الداعمة للنظام، ففي السنوات السابقة أثبتت الوقائع أن جهداً ومالاً كثيرين قد بذلا من قبل هؤلاء من أجل المضي في هذا المخطط، حيث جرى تفريغ منطقة بساتين المزة ليتم بيعها للمستثمرين الإيرانيين، ومنذ فترة طويلة يتحدث الإعلام عن عمليات تملك واسعة لهؤلاء في الكثير من أحيائها، وبناء على ما سبق يصبح من المفهوم تماماً عدم تعاطي الجميع مع حريق العصرونية على أنه مجرد حادث عادي، سيما وأن ذلك سبق بمحاولات شراء قوبلت بالرفض من قبل تجاره.

ويصبح مفهوماً اعتبار حريق العصرونية كنقطة فارقة في هذا المخطط الجهنمي لها دلالاتها في الشكل والتوقيت.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات