(شهيد الآذان) ينتظر الإنصاف

(شهيد الآذان) ينتظر الإنصاف
رغم مرور 55 عاماً على إعدامه، ما تزال روح رئيس الوزراء التركي علي عدنان مندريس، تخفق فوق رايات الأناضول الجديدة، المتعانقة مع تاريخ امبراطوريةٍ حَكَمَتْ ذات فخارٍ أربع جهات الأرض.

كأيِّ مواطنٍ صالحٍ، أحبَّ ابن آيدن المدينة الوادعة الممتدة مثل سهل أخضر بلاده، وتفانى في خدمتها.

مزارعاً منحدراً من عائلة عريقة مبتلاة بالسياسة، كَبُرَ الفتى، وتقلّب بين عدة أحزاب من بينها حزب الشعب الجمهوريّ (الأتاتوركيّ)، وصولاً إلى الحزب الديمقراطيّ الذي منه انطلق، وعبره عانق المجد. بفوز كاسح، وليس بعيداً عن تأثير أتاتورك، وطغيان فلسفة الحكم والقيادة عنده، قَلَبَ مندريس في العام 1950 الطاولة على أتباع مؤسس "تركيا الفتاة"، وعرّاب علمانيتها المفروضة بالنار والحديد.

إنه الفوز الذي حرّك قوى الشر داخل أعماق العسكر. وغداته، ولمّا تتفتح وروده بعد، أصبح هذا الفوز المجلجل للديمقراطيين الجدد، المذل لأرباب الحزب الواحد، الرأس المطلوبة رقم واحد لجنرالات تركيا الصلفة المتحجرة عند أبواب ردة فعل حائرة من أفول امبراطورية طال عمرها، وتوالى سلاطينها خمسة قرون متواصلة.

طغاة العلمانية غير المختمرة مفاعيلها وقيمها داخل وجدان شعب مسلم طافت جيوشه أنحاء العالم باسم دينهم وتحت راياته العاليات، أضمروا الشر إذاً، وهم كانوا هددوا حتى قبل فوز مندريس ورفاقه أن الجيش معهم وبالتالي القوة والبطش وإعادة الأمور إلى نصابها في أي وقت يرغبون، وهذا ما حدث فعلاً بعد 11 عاماً من حكم الحزب الديمقراطي الذي تجلى في أرجاء تركيا جميعها كرفاه واختلاف وترك الناس ودينهم، يتمسكون به بالطريقة التي يفهمونها، ويرتاح وجدانهم لها.

في سبيل فوزه وحزبه كان عدنان مندريس قدم للشعب جملة من الوعود: تحرير الاقتصاد تدريجياً، إعادة العربية لآذان المسلمين، تبني خطط تنموية حقيقية فاعلة على صعيد الزراعة والصناعة والإنتاج. وفّى الرجل وعوده، وبات الآذان يرفع باللغة العربية التي اشتاقت لامتدادها في بلاد الأناضول واشتاقها أبناء القرآن، وإذا بوفائه الشجاع هذا يتحول إلى فوز أكبر في انتخابات العام 1954، وإلى تقهقر أكثر إذلالاً لحزب الشعب الجمهوري الذي تبيّن أنه لا علاقة له بالشعب إلا من خلال كلمة من كلمات اسمه الثلاث. زاد الحقد، وتشابكت خيوط المؤامرة، وعلى الطرف الآخر زاد مندريس رئيس الوزراء المنتخب للمرة الثانية على التوالي، من جرعة الاستجابة للوجدان الساكن ما يزال عميقاً داخل أرواح الناس، فأعاد الروح للمساجد، وأزال من عشراتها أكياس الحبوب التي تحولت في عهد العلمانيين (الحديديين) إلى مخازن لتلك الحبوب، وفتح معاهد تعليم القرآن وآلاف المساجد الجديدة، وسمح بالحج بعدما كان ممنوعاً، وتقرب من العرب بعد جفاء، وجافى دولة الكيان الصهيوني بعد غزل ممتد وعلاقات وطيدة، حتى إنه طرد السفير الإسرائيلي غداة العدوان الثلاثي على مصر.

عمّ الرخاء رغم الكيد وقوى الشد العكسي، وكان جليّاً أن حزبه ماضٍ نحو تقدم غير ملتفت للوراء، وأن منهجه الذي راهن أعتى خبراء السياسة الأمريكيين على فشله، يصعد كمعجزة نحو معراج وجدانيٍّ ديمقراطيٍّ يوظف الماضي في تفجير الطاقة الإبداعية القصوى للحاضر، ورسم لوحة أمل مطرزة بالحياة نحو أفق المستقبل، فوصلت المؤامرة أبشع صورها، مدعومة بتنظيرات مدنيين من الحقوقيين القادرين على تزيين خيانة الوطن، وتجميل الغدر، وتحصين أول انقلاب عسكريٍّ في عهد الجمهورية بقوانين جاهزة وتخريجات متداعية.

في عتمة ليلٍ سادرٍ وضع جنرالات الانقلاب يدهم على البلاد والعباد، وألقوا القبض على رئيس الجمهورية محمود جلال بايار ورئيس الوزراء علي عدنان مندريس ووزيريّ الخارجية والمالية ومئات الضباط ممن لم يكونوا مع الانقلاب، وما هي سوى أشهر قليلة حتى كان قرار إعدام مندريس ووزيريه قد أصبح ساري المفعول. أعدم مندريس لكن المشنقة التي حملت إنجازاته اللافتة وإيمانه العظيم لم تستطع أن تخنق حبه لشعبه وأمته فكان آخر ما قاله: "في تلك اللحظة التي أنا فيها على وشك مفارقة الحياة, أتمنى السعادة الأبدية للدولة والأمة". وفي حوارات نُقِلَ أنها جرت بينه وبين جلاديه وبعد أن قال له أحدهم "أصمت"، وكان يرد عن سؤاله حول إن كان يخشى الموت أنه لا يخشاه لأنه فعل ما يجب عليه فعله: "إذا صمتُّ أنا فالشعب لن يصمت، الضمير لن يصمت، الحقيقة لن تصمت.. أسامح عن حقي، وروحي أفديها لشعبي".

"لم يكن مندريس إسلامياً"، يقول خبير بالشأن التركي، "بل إنه خرج من مدرسة أتاتورك، وهو الذي وضع تركيا في دائرة العالم الغربي، لكن سماحه بمظاهر التدين الإسلامية، أوغر صدر الجيش ضده، فلم يكتفِ بالانقلاب عليه، بل تجاوز ذلك وارتكب أخس جريمة (وطنية) بإعدامه فيما هو يردد كلمات المحبة للأمة وينطق الشهادتين باللغة العربية الفصحى".

علي عدنان مندريس ابن آيدن أو عدن بالعربية التي كان شهيدها، مدينة الشاعر العظيم ناظم حكمت، كشف بموته المأساويّ المدويّ (إلى الأبد) بطش العسكر، وظلم أن يتحولوا إلى أصحاب قرار سياسي، وراهن على المستقبل، مؤكداً لجلاديه أن الشعب لن ينساه وأن شنق مندريس لن يمنع ظهور مندريس آخر في زمن آخر وأكثر عدلاً وحرية.. لكن العسكر لا يتعلمون (عادةً) دروس التاريخ، وهم غير الجيوش التي تحمي الديار وتذود عن الثغور، وتؤدي بصمت وفداء وإيمان وإخلاص، واجبها المقدس تحت راية الوطن وإدارة الحكومة.

مندريس (شهيد الآذان) الناجي الوحيد، بحسب رواية غير موثقة، بعد تحطم طائرةٍ ما، لم يكن بعيداً عن روح حكمت، ولا عن يقينه بغدٍ أجمل: "أجمل البحار تلك التي لم نزرها بعد.. وأجمل الأطفال أولئك الذين لم يولدوا بعد.. وأجمل الأشعار تلك التي لم تكتبْ بعد.. وأجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد"، هكذا كان ينشد ناظم داخل زنزانته التي مكث فيها 28 عاماً، وهكذا كان يردد عدنان. ورغم شيوعية حكمت، فإن الرجليْن وجدا ما يلتقيان حوله: العدل والمساواة والديمقراطية الحقة التي تحمي حرية المعتقد والعبادات، والحرية عموماً بمختلف ألوانها القزحية وتجلياتها الإنسانية. 

تلك الحرية التي ينشدها السوريون، ويموتون يومياً من أجلها دون أن ينتبه لدمائهم أحد.. لكنهم أبداً لم ييأسوا، فأجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد.. السوريون أصحاب المثال المدويّ الرابض فوق أرواحهم حول حكم العسكر وانقلاباتهم، فهم (بسم الله ما شاء الله) أبناء دولة تناوبت عليها خلال العقود الماضية عشر انقلابات بائسة، قضت على الآمال العراض بجمهورية حقيقية ومؤسسات دولة فاعلة. إلا أن أكثرها ضراوة وبشاعة ومقتاً وشعارات كاذبة انقلاب 16 تشرين الثاني 1970، الذي ما يزال الشعب السوري يدفع من روحه واستقلاله وكرامته وآفاقه الأحلى، ثمناً باهظاً لتركه يمر.

العسكر الانقلابيون أعداء الحياة، وكلاء الموت والدمار، ارتكبوا أكبر جريمة سياسية في تاريخ تركيا الحديث، أعدموا رمزاً من رموز الأمة، دون أن يتمكنوا من إعدام رمزيته ومنهجيته ورؤاه، وهو ما يتحقق اليوم، ومع استعادة (الشهيد) مكانته ورفات جسده ورفيقيه، ومع تصاعد الأصوات المطالبة بإعادة الاعتبار له، وحتى الإنصاف الكامل المستحق لمنجزه التاريخي الفذ: فإن صوت ناظم حكمت من داخل جدران زنزانته سوف يظلُّ يردده الصدى: 

"هذا البلدُ لنا.

الأرساغ الدامية.. الأسنان المطبقة

الأقدام العارية

أرضٌ كسجادة الحريرِ الثمينة

هذا الجحيم.. هذه الجنة لنا

دع الأبواب تغلق.. أبواب غيرنا

لا تدعها تفتح ثانيةً

اذهبوا بعيداً باستعباد الإنسانِ للإنسان

هذا نداؤنا.

أن نعيش.. كشجرةٍ وحيدةٍ وحُرَّةٍ

كغابةٍ من الأخوة

ذلك طموحنا.

إنهم أعداء الأمل يا حبيبتي..

نعم أعداء

المياه الجارية

والأشجار المثمرة اليانعة

والحياة المتدفقة المتطورة ذلك لأن الموت طبع بصماته

على جباههم.. 

هم مثل الأسنان المنخورة واللحم المهترئ

إنهم محكومون بالانهيار إلى غير رجعة

عندئذ يا حبيبتي سوف ترين بكل تأكيد

ملائكة الحرية تحوم في أجواء بلادنا

مرتديةً أحلى أزيائها.. متلفعةً ثياب العُمّال".

التعليقات (1)

    سلطان

    ·منذ 7 سنوات 11 شهر
    الله يرحمة
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات