لطالما حلم كل طرف من الأطراف المحلية والدولية بالوصول إلى الرقة قبل غيره، لا لتحرير أبنائها من الآفة التي ابتلوا بها، بل للحصول على شرف السبق لدخولها وفرض السيطرة عليها، ما يعني تلقائياً تتويج المنتصر على هذا التنظيم الذي أرّق العالم، وجعله طرفاً من بين الأطرف التي سترسم مستقبل سورية، لكن هذا الأمر لم يحصل، فقد نسي الجميع الرقة، وبدأ التنافس على مناطق أخرى كحلب وتدمر والقلمون وغيرها، ومن الواضح أن أي طرف لن يدخل الرقة فاتحاً في المدى القريب على الأقل، بسبب وجود قرار أمريكي بعدم السماح لأي طرف بالحصول على هذا الشرف منفرداً.
كانت الرقة أول مدينة تُحرر بالكامل من النظام السوري على أيدي مقاتلي الجيش الحر في آذار/ مارس 2013، وفي ذلك الوقت لم تكن بنيتها التحتية قد شهدت دماراً كبيراً مقارنة بغيرها من المدن، لكن تنظيم الدولة لم يُمهل المعارضة ونسي مقارعة النظام السوري الذي يدّعي عداوته، فالتفت لإخراج مقاتلي المعارضة بالقوة من المدينة، ربما لأنه اكتشف أن بها ثروات يمكن أن تساهم في تضخيم بيت ماله، كأكبر سدود سورية توليداً للطاقة الكهربائية، والمحاصيل الزراعية والبوابات الحدودية مع تركيا، وبعض حقول النفط، والأهم أنه سيقطع على المعارضة مشروع إقامة منطقة آمنة يمكن أن تكون مُرتكزاً لها، واستطاع التنظيم المشؤوم السيطرة عليها في كانون الثاني/ يناير 2014 وأعلنها عاصمته.
اعتقد النظام السوري أن بإمكانه استرجاع الرقة بسهولة، بمساومات وصفقات مع التنظيم تتبعها معارك وهمية يليها انتصار مُظفّر، كما فعل بالكثير من المناطق كالقريتين وتدمر والقلمون وغيرها، وإن اضطره الأمر فإنه لا يحتاج لأكثر من حفنة من البراميل المتفجرة العشوائية لوضع حد له، خاصة وأنه من سيضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، أن يُدمّر المدينة على رؤوس أصحابها، وأن يطرد بعض الخارجين عن إرادة التنظيم ليفرض نفسه شريكاً يُعتدّ به ضد الإرهاب، وأن يُقدّم المدينة مكافأة لميليشياته ليستبيحوها، لكن طال انتظاره للضوء الأخضر الروسي دون فائدة، فالمدينة الآن لم تعد جزءاً من التمثيلية وباتت بأوامر أمريكية خارج السيناريو المرسوم.
ليس النظام وحده من أبدى اهتماماً بالسيطرة على المدينة، بل يثير الدهشة حجم الاهتمام الإيراني بها أيضاً، والتوزّع المُحكم لميليشياتها حول المدينة وبالقرب منها، من فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومن لواء فاطميون الذي يضم عناصر من الشيعة من قومية الهزارة الأفغانية الذين تُرسلهم إيران بلا حساب، فالمدينة (جوهرة التاج الصفوي) كما يُطلق عليها الإيرانيون بسبب أهميتها ككنز لمؤسسات التشييع بالنسبة لإيران، وهي الآن تتربص هناك تُمني النفس بأن تصدر أي إشارة سماح دولية لتبدأ مهمتها.
لا تبتعد كثيراً عن هذا المبدأ وجهة نظر القوات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، التي أعلنت الفيدرالية في جزء من شمال سورية، فالسيطرة على المدينة يعني اعترافاً دولياً تلقائياً بالميليشيات الكردية كقوة ضاربة يُحسب لها حساب، وهم يمنون النفس أن تكون مكافأتهم إن طردوا التنظيم من المدينة السماح بضم المزيد من الأراضي والبلدات والمدن السورية لفيدراليتهم القلقة، ولهذا يتربصون بالمدينة من كل صوب عسى أن يلمحوا دخاناً أبيض يسمح بالانقضاض على المدينة.
أما الكتائب الثورية المعارضة للنظام السوري وعلى اختلاف إيديولوجياتها، ورغم أنها خسرت الرقة عندما اختطفها تنظيم الدولة الإسلامية منها بالقوة، تأمل أن تعود للمدينة لتجعلها منطقة آمنة بالتعاون مع التحالف الدولي أو تركيا، لكن قيوداً أكبر من قدراتها تمنعها من التقدم.
أما روسيا، فلا تتعرض للتنظيم في الرقة، ولا تتحرش بمقاتليه وتسمح لهم بالدخول والخروج على أعين الأشهاد، وفي الوقت نفسه تضع عيناً على الرقة وأخرى على ندّها الأمريكي، الذي يُخطط بدوره لتكون معركة الرقة أم المعارك بالنسبة للتحالف الدولي في سورية، ففيها بداية انكسار تنظيم الدولة الذي جاءت من أجل تكسيره، وأم المعارك هذه من وجهة النظر الأمريكية يجب أن تكون درساً للآخرين بأن ما أتى من أجله الأمريكيون سيخرجون به.
خلال العامين الماضيين نزح قسم كبير من أهالي الرقة خارجها، نتيجة عنف وبراميل وصواريخ النظام العشوائية، ثم نتيجة قسوة تنظيم الدولة سيء الصيت وقوانينه المتشددة والمتطرفة، ثم بعد ذلك نتيجة غارات الطيران الروسي الموجهة ضد المدنيين، وأخيراً نتيجة أطماع قوات كردية أعلنت أن الرقة هي جزء من كانتون كردي شمال سورية تسعى لفرض الفيدرالية فيه بالقوة، ما جعل المدينة المسكينة تتحول لـ (ملطشة) للجميع دون أن يجرؤ أحد على تخليصها مما ابتُليت به.
يبدوا أن الولايات المتحدة قد وضعت (فيتو) على الرقة يؤكد على أنه لن يحررها من سطوة تنظيم الدولة أحد غير من تراه مناسباً، ولن تمنح شرف ذلك لأياً كان، وسيكون صاحب الحظ الذي يُسمح له بذلك هو طفل العم سام المُدلل للمرحلة المقبلة.
التعليقات (5)