ثار السوريون على عصابة الأسد، وكلهم أمل بتغيير سلمي حضاري، يحقق لهم ولو الحد الأدنى من الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، التي افتقدوها، منذ وصلت عائلة الأسد الى الحكم في سورية، هذه العائلة التي حولت سورية من دولة عريقة صاعدة، الى مجرد إقطاعية يتوارثها الأبناء والأحفاد من آل أسد، حيث قسمت الامتيازات فيما بينهم بحسب درجة القرابة.
لم يكن أشد المتشائمين بالثورة وفصائلها المسلحة ليتخيل أن يصل الحال بسورية الى ما وصلت إليه، إذ ورغم كل ما كابده السوريون على يد عصابات الأسد وميليشيات إيران الطائفية، يقفون اليوم مصدومين حائرين، أمام واقع ما كانوا ليتخيلوا يوما أنهم سيواجهونه، واقع جعل من إخوة السلاح أعداء، يتقاتلون على الزعامة والسلطة، فيسقط عشرات بل ومئات المدنيين ضحايا رصاصهم، الذي ضل الطريق.
من الغوطة إلى حوران، نفس المأساة صراع ذو شقين، فهو إما صراع على السلطة والنفوذ والزعامة، وإما صراع بأوامر خارجية، لكنه في كلتا الحالتين يحمل نفس العنوان، "الحرب على الإرهاب" وقتال تنظيم الدولة الإسلامية، هذا الشعار الذي بات أسطوانة مشروخة، وعذرا أقبح من ذنب، تتخذه بعض الفصائل مبررا لما تقوم بشنه من حروب أو اعتداءات.
قبل أيام اندلعت شرارة حرب فصائلية في الغوطة الشرقية، وذلك بين جيش الإسلام من جهة، وفيلق الرحمن وجيش الفسطاط من جهة أخرى، السبب المعلن لهذه الحرب كان على خلفية محاولة اغتيال الشيخ خالد طفور الفاشلة، ورفض جيش الإسلام تسليم المتورطين في محاولة الاغتيال، وهو ما يمكن اعتباره القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث الكم الهائل من الخلافات المتراكمة، نتيجة محاولات الجيش المستمرة التوسع على حساب باقي الفصائل، وما قام به من اعتقالات واغتيالات، إضافة الى الصراع على المال والنفوذ والسيطرة على مناطق وبلدات الغوطة، الأمر الذي جعل من الانفجار مسألة وقت لا أكثر.
الغريب في الأمر هو أن كافة الفصائل المتناحرة، تحمل أسماء إسلامية وترفع راية الدفاع عن العقيدة والإنسان، لكن عشرات المدنيين سقطوا ضحايا على يد هذه الفصائل، خاصة جيش الإسلام، الذي قام باقتحام عدة بلدات وفض بالقوة الاعتصامات الشعبية التي نظمها الأهالي احتجاجا على اقتتال الفصائل ومنعا له، وهو ما يذكرنا بما قام به مالكي العراق الإيراني بحق سنة العراق عندما فض اعتصاماتهم السلمية بقوة السلاح، فكانت الشرارة التي أدت لانضمام العديد من الفصائل العراقية المسلحة لتنظيم القاعدة وظهور "الدولة الإسلامية".
جميعهم يحدثون باسم الشعب السوري، لكنهم لا يقيمون لهذا الشعب وزنا، ويتناسون أنهم ما كانوا ليكونوا لولا الشرعية التي منحها لهم هذا الشعب، هذه الشرعية التي اكتسبوها من خلال شعار التصدي لعصابات الأسد، والدفاع عن الأرواح والأعراض والممتلكات، التي باتوا هم أنفسهم يشاركون في انتهاكها، أنتم حتى لم تنصتوا لصوت المظاهرات الشعبية التي خرجت منددة بهذا الاقتتال الفصائلي، ولم تحترموا الاعتصامات التي أقامها الأهالي حقنا لدمائكم قبل دمائهم.
أليس مثيرا للتساؤل، أن يكون الاقتتال والتناحر الفصائلي في أهم المناطق السورية، كريف دمشق وحوران اللتان تحيطان بدمشق، وتعتبران البوابة اليها، واللتان كانتا أول من انتفض على نظام الأسد؟ ثارت درعا فحاصرها نظام الأسد، فطلبت الفزعة، فلبت دوما النداء، وانتفضت معها غوطة الشام، بركانا هادرا مزلزلا بهبة جماهيرية زاحفة الى دمشق، هل تذكرون؟
يومها استشعرت عصابة الأسد خطر غوطة الشام ونخوة أهلها، وهبة حوران وبطولة شبابها، الذين دكوا حصون وقلاع أقوى القطعات العسكرية التي زرعها نظام الأسد على ثرى حوران، ليس دفاعا عنها، بل حماية لنظامه، الذي احتل عاصمة الشرق دمشق، وحولها إلى محمية فارسية.
في بداية الثورة حققت بضع كتائب للجيش الحر، مالم تحققه جيوش وفرق وألوية على كثرتها، في حين أن مهمة بعض الفصائل الكبيرة باتت اليوم إعلامية استعراضية أكثر منها قتالية، وأصبحت تفرض نفسها كبديل لنظام الأسد، على المحرر من الأرض، وكرست واقع اللاحرب واللاسلم وذلك من خلال الهدن والمصالحات المعلن منها وغير المعلن، وهو ما فرض معادلة لا غالب ولا مغلوب، فلا معارك حقيقية، ولا تقدم باتجاه دمشق، بل ولا تحرير لمزيد من الأرض أو استنزاف لقوات الأسد، ولكن سيطرة وإدارة للمناطق، وكأن هذه الفصائل قد اكتفت بما تسيطر عليه من أرض.
حتى واقع اللاحرب واللاسلم الذي فرضه توقف القتال بين فصائل المعارضة المسلحة ونظام الأسد لم ينعكس إيجابا على حياة السوريين المقيمين في مناطق سيطرة هذه الفصائل، فسوء الإدارة والمحسوبية كان واضحا جليا، والصراع على النفوذ أدخل الفصائل المسلحة في صراعات منها ما هو خفي ومنها ما هو علني وصل حد الاقتتال كما يحدث اليوم في الغوطة.
في حوران صراع من نوع آخر، صراع فرضته الإرادة الخارجية التي تمسك بقرار الفصائل، حيث سنجد أن جيشان وثمانية فرق ولواءان قد توحدت على قتال لواء وحركة، والتهمة هي الظن بمبايعة تنظيم الدولة الإسلامية، فتركوا نظام الأسد رغم كل ما ارتكبه بحق السوريين من جرائم ولا يزال، وتفرغوا لقتال اخوتهم، فهدروا إمكانياتهم وسفكوا دمائهم، خدمة لعدوهم وتنفيذا لإملاءات خارجية.
لقد كشف العدوان على حلب عجز فصائل حوران، وفقدانها لقرارها الحر، وهو ما دفع بالأهالي للاعتذار ورفع لافتات تقول: "عذرا حلب حتى النخوة في حوران صارت بأمر الموك " وذلك في اشارة واضحة لتخاذل فصائل حوران المسلحة عن نصرة حلب.
جيش الإسلام يتهم النصرة بالخوارج، وجيش الفسطاط بالعمالة، وفيلق الرحمن بالعلمانية والتبعية للموك، (طبعا الجيش لا يذكر شيئا عن مصادر تمويله ولا الجهة التي يتبع لها) ثم يقوم باقتحام مسرابا إحدى معاقل فيلق الرحمن والحجة قتال "داعش"، فأي تدليس هذا؟ عشرات المدنيين قتلوا بدم بارد، ونتيجة لعمليات الاقتحام وفض اعتصامات الأهالي، فمن الذي يتحمل مسؤولية إزهاق أرواح هؤلاء؟ إنها ليست "داعش" بكل تأكيد، بل فصائل تدعي أنها تحارب التنظيم وترفع راية "الإسلام المعتدل"، لكنها تتقاتل على المال والسلطة، ولا تتورع عن استباحة الأرواح والأعراض والأموال.
في ظل هذا التشرذم الحاصل الذي يبث اليأس في النفوس بزغ بصيص أمل من القابون، أمل تمثل بهبة شعبية وفصائلية، ترفض اقتتال الإخوة وتحصن جبهتها الداخلية، من خلال توحيد الفصائل العاملة في المنطقة، ضمن مجلس عسكري موحد وخروج مظاهرات شعبية، رفعت شعار "عزتنا بوحدتنا وعقبالك يا غوطتنا".
إن اول ما يتبادر إلى ذهن أي سوري ثائر هو إلى متى؟ وما هو الحل للخروج من هذا الواقع المؤلم الذي بتنا نعيشه؟
من المهم جدا وعند التصدي لحل أي مشكلة، أن نضع يدنا على الأسباب الحقيقية للمشكلة، وألا نتهرب من مواجهة الحقائق لأن عدم مواجهة الأسباب الحقيقية للمشكلة لن يسهم سوى في تأخير الحل وتعميق المشكلة وزيادة تراكماتها، والتهرب من مواجهة المشكلة يعني مجاملة طرف على حساب أطراف، وضياعاً للحقوق، وتشجيعا للظالم على ظلمه.
حتى الهيئات الشرعية المشتركة، والإدارات المدنية التي تم تشكيلها، كانت تخضع بطريقة أو بأخرى لإرادة للطرف الأقوى، الذي كان يسخرها خدمة لأهدافه في السيطرة، وإحكاما لقبضته على المناطق التي يتواجد فيها، وهو ما خلق شعورا بالظلم والجور لدى الآخرين، فلا الهيئات الموحدة كانت موحدة ولا المشتركة كانت مشتركة بل جميعها خاضعة للأقوى والأكثر مالا.
إن أكثر ما تعاني منه ثورتنا هو ارتهان قرار فصائلها المسلحة للخارج، وذلك نتيجة الحاجة الماسة للدعم المادي والعسكري الذي توفره بعض الجهات الإقليمية والدولية، فحجم الفصيل الكبير يفرض نفقات كبيرة لم تستطع القيادات تأمينها بإمكانيات ذاتية، وبالتالي فإنها اعتمدت على ما يصلها من دعم خارجي، أسهم في خضوع هذه القيادات بشكل شبه كامل للخارج.
هل خطر ببال هذه القيادات يوما أنها تنحرف عن هدفها، الذي قامت من أجله، وأنها تفقد شرعيتها وحاضنتها الشعبية، وأنها من خلال ما تقوم به من تجاوزات أو تنفيذ لأجندات خارجية قد تتحول رويداً، رويداً، من جيش حر وفصائل معارضة، بمسمى إسلامي الى ميليشيات مرتزقة مأجورة، تنفذ تعليمات الممول والداعم، وليس إرادة شعبها؟ هذه هي الحقيقة رغم قسوتها.
كم هو محزن أن نشاهد الأسلحة الثقيلة وهي تخرج من مخابئها لتشارك في معارك ليس ضد عصابة الأسد بل في معارك الزعامة والنفوذ والسيطرة على المدن والقرى والبلدات المحررة، وأن الكم الهائل من الذخيرة الذي استخدم في القتال بين الإخوة لم يستخدم ضد نظام الأسد بل ادخر ليوم كهذا.
تركتم الزبداني، وداريا والمعضمية، والشيخ مسكين، تواجه مصيرها لوحدها، وعندما كنا نطالبكم بالتحرك كنتم تجدون ألف عذر وعذر، لكنكم ما أسرع ما جيشتم الجيوش لقتال بعضكم البعض، فلماذا؟
كم هو محزن أن نشاهد الأبرياء من الأطفال والنساء وخيرة أبناء سورية من أطباء ومهندسين ومهنيين يقتلون على يد من نصبوا أنفسهم حماة لهم.
أي حقد ملئ قلوبكم، وأعمى بصائركم، فأطلق العنان لشياطينكم أنفسكم تقتل، وتستبيح الحرمات، وتعتقل الإعلاميين ورجال الدين، ثم تسطوا على مستودعات الأدوية والأغذية فتسرق وتنهب محتوياتها.
نتسائل لماذا لم ننتصر بعد؟ فلا والله لن ننتصر، حتى تتوحد الكلمة، ويؤخذ على يد الظالم، وترد الحقوق إلى أصحابها، ويعود القرار لأهله، وليس لمرتزقة لا يعملون الا وفق أوامر واجندات خارجية، لا هدف لها سوى اجهاض ثورتنا، ووأد صحوتنا، والإبقاء على سليل الإجرام قابعا على كرسيه، فلا العرب ولا العجم يهتمون لمأساتنا، ولا يمكن لهم ان يكونوا سوريين أكثر من السوريين.
السكوت عن الظالم مشاركة في الظلم، ووالله ما استبد المستبدون، ولا تفرعن الفراعنة، الا بسكوت الناس عن أول بغيهم، فخذوا على يد الظالم حتى لا تكون فتنة، واعلموا أن عزنا في وحدتنا، وولاؤنا لعقيدتنا التي يحاربها الجميع، واعلموا أن عدونا هو عصابة الأسد وإيران التي تحتل وطننا المستباح، وليس إخوة السلاح أيا كان توجههم، فعودوا إلى رشدكم، ودعوا عنكم الجاهلية فإنها منتنة، واعلموا انكم ستقفون بين يدي الله وستسألون.
التعليقات (24)