"المرجعية الإسلامية" وازدواجية الخطاب

"المرجعية الإسلامية" وازدواجية الخطاب
جاءت السلطنة العثمانية وريثاُ شرعياً لمصطلح الخلافة، وعندما خسرت الحرب العالمية الأولى اعتبرت هذه الخسارة سقوط للخلافة أكثر من سقوط للدولة العثمانية، ليظهر مصطلح بين عالمي الدين والسياسية هو مصطلح "الإسلام السياسي" انتشر في مختلف الدول الناتجة عن تفكك السلطنة أو الخلافة العثمانية، وقد كان أحد تطورات مصطلح الإسلام السياسي ما يُعبر عنه بـ "المرجعية الإسلامية".

هذه المصطلحات الثلاث سواء الخلافة أو الإسلام السياسي ومن ثم المرجعية الإسلامية شكلت لبساً في الفهم وهاجساً لدى النخب في المدارس السياسية المختلفة كالليبرالية والقومية وأصحاب فكرة العودة إلى الخلافة بالشكل الماضوي للمصطلح.

يتلقى أصحاب المرجعية الإسلامية الكثير من التهم كازدواجية الخطاب، وذلك عندما يعبرون عن حيادية الدولة ويؤكدون في خطاباتهم على حماية الحريات، فلا يستطيع الكثيرين التمييز بين الليبرالية أو العلمانية وبين المرجعية الإسلامية، وكأن هذه المرجعية وجدت لتحشيد الجماهير لا غير.

ومصطلح المرجعية الإسلامية يحتاج إلى مزيد من التحرير والضبط، بيد أنه يطرح حلاً في ثناياه على اعتباره مصطلح لنظرية سياسية متكاملة، لا تقل في طرحها عن تكامل أي نظرية سياسية أخرى.

يطرح أصحاب هذه المدرسة فكرة المرجعية الإسلامية على أنها مرجعية قيَمِية مناسبة للمجتمعات التي يكون فيها غالبية سكانية من المسلمين، بغض النظر عن مذاهبهم. حيث تشكل هذه القيم نسيج ضام لا يشمل من ينتمون للدين الإسلامي بشتى فرقه فقط، بل تشكل هذه القيم ثقافة لشعوب المنطقة بكل أديانها وطوائفها، ففي الوقت الذي يعتبر المسلمون هذه القِيم دين، يعتبر من ينتمي لدين غير الإسلام هذه القيم ثقافةهو شريك حقيقي وأساسي في صياغتها.

تحتاج الشعوب في عملية التأسيس والنهوض إلى نسيج ضام، لتشكيل قاعدة يقف عليها الجميع، وينطلقون منها لبناء أوطانهم ونهضة شعوبهم، غير أن هذا النسيج لا يمكن أن يتشكل إلا بمرجعية فكرية، لتكوين مرتكزات يعتمد عليها هذا النسيج، لهذا وجِدت الشيوعية والليبرالية والإسلامية والمسيحية وغيرها من مرجعيات قومية كانت أو دينية أو فكرية بحتة.

يرى أصحاب المرجعية الإسلامية أنها الأنسب من غيرها من المرجعيات سواءً القومية أو العلمانية، ليس لأنها دين بقدر ما هي ثقافة مشتركة لشعوب المنطقة، خاصة وأن مبادئها تتلائم مع قيم الدولة الحديثة بكافة أشكالها، ومن أهم قيمها حيادية الدولة بالنسبة للمجتمع، فلا يمكن أن تفرق مؤسسات الدولة بين مسلم وغير مسلم اعتماداً على ما أسس له فعل وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العديد من المواقف ومنها “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمم أحراراً"، ومؤسسات الدولة مهمتها خدمة المجتمع بكليته، وما قول سيدنا عمر بن الخطاب"بأنه يخشى أن يسأله الله عن ناقة تعثرت بالعراق لِمَ لم أعبد لها الطريق" إلا دليل على أن مهمة الدولة هو خدمة المجتمع بعيداً عن أي تصنيف، فالناقة تحمل على ظهرها مسلم وغير مسلم، بل تحمل بَّراً وفاجراً وكبيراً وصغيراً، وتشكل هذه المرجعية الإسلامية البنية القيمية لمؤسسات الدولة.

وهذه البنية هي البناء الغير ملموس ( intangible) لمؤسسات الدولة وهو بناء هام بحسب رأي عالم السياسية البرفيسور فوكوياما عندما أشار إلى أن "مؤسسات الدولة تتألف من بناء ملموس وهو بناء مؤسسات الدولة بأبنيتها ومستلزماتها وهياكلها الإدارية والبناء الغير ملموس وهو حسبما أشار ما افتقدته مؤسسات الدولة العراقية فيما بعد سقوط صدام فأدت بالعراق إلى هو عليه اليوم" وإذا كان من الأفضل لنا أن نحافظ على مؤسسات الدولة السورية، مستفيدين من تجربة العراق الفاشلة عندما حل الأمريكي بريمير مؤسسات الدولة العراقية، فإنه لا بد للسوريين من تطوير مؤسسات دولتهم القادمة وتغيير الجزء الغير ملموس منها.

فالبنية القيمية التي أنشأها نظام البعث حَرف مسيرة كل مؤسسات الدولة السورية لتكون هي صميم المشكلة، وهنا نرى أن طرح المرجعية الإسلامية قد يشكل حلاً هاماً، فحيادية الدولة، والعدالة المأمور بها بنص القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون } والمساواة في الحقوق والواجبات دون أي تمييز، فمن حق المواطن أن يحصل على كافة حقوقه بعيداً عن خلفيته الدينية أو العرقية أو الفكرية.

والدولة ذات المرجعية الإسلامية ليست دولة ثيوقراطية، بمعنى أن الرئيس محاسب وليس ناطق باسم الله عز وجل وليس له حصانة دينية، وهذا معلوم وليس بحاجة إلى شواهد، كما تضمن هذه المرجعية الحريات العامة، وللمواطن أن يعتنق ما يرغب من دين أو عقيدة "لا إكراه في الدين" هذه إشارات سريعة لمضمون خطاب الاتجاهات السياسية التي تتخذ المرجعية الإسلامية خلفية لعملها، معتبرة أن هذه المرجعية تلاءم ثقافة المجتمع السوري بكافة مكوناته، وهي أقرب إلى أن تكون متصالحة مع المجتمع السوري وثقافته.

يؤكد أصحاب هذه المرجعية على أنهم أساس في محاربة التطرف الفكري الذي اجتاح الساحة السورية، حيث أن الفكرة لا يمكن أن تحارب إلا بفكرة مضادة وليس بالسلاح الذي فشل في محاربة كل تطرف من إيرلندا إلى أفغانستان، ولن تكون سوريا استثناء.

بكل الأحوال المرجعية الإسلامية تدعم تعزيز الحريات العامة، وقد اعتبر أصحاب هذا المنهج أن الحرية هي المقصد السادس للشريعة الإسلامية بعد الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال. و المواطنة في الإسلام معترف بها، لا تفريق بين سوري وسوري لا في الدين ولا في العرق ولا في الجنس سواء في الحياة أو بعد الممات، الجميع لهم الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات ذاتها!!.وهذا ليس بِدعاً من القول، ورد في صحيح البخاري:" كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ ليست مسلمة، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا"

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات