سايكس- بيكو والدولة الوطنية

سايكس- بيكو والدولة الوطنية
منذ أن قرعت مدافع نابليون بونابرت أبواب مصر والعيون الأوروبية، تتوجه إلى المشرق العربي، وتنتظر بفارغ الصبر موت الرجل المريض لتضع اليد على إرثه الثمين، القياصرة الروس مثل الدول الأوروبية الاستعمارية الأخرى الصغيرة منها كالبرتغال أو إيطاليا والكبيرة كبريطانيا، عندما  تلمسوا مرض الامبراطورية العثمانية، بدؤوا يتسللون من خلال ماأطلقوا عليه مصطلح" الأقليات" وأعلنوا أنهم يحمونها من تعسف الحكم العثماني.

وفرضوا قانونياً علاقتها بقناصلهم، وتنافسوا في نشرالمدارس والمستشفيات ليستميلوا من خلالها العامة ولتكون مراكز أبحاث ودراسة لواقع شعوب المنطقة من أجل تسهيل استعمارها فيما بعد.

عندما جاءت اللحظة الحاسمة بإلغاء الخلافة على يد الضباط الأتراك وإعلان الجمهورية الطورانية ثم خسارة تركيا الحرب العالمية الأولى كان أول ما فعله المتنافسون أن جلسوا خلف طاولاتهم يضعون الخطوط على خارطة المشرق العربي لاقتسامه، وهكذا أنتجوا بين عامي 1915و1916 معاهدة سايكس_ بيكو التي مرت بمراحل متعددة من التعديلات وفق مصالح المتقاسمين ومصالح القوة التركية الناشئة.

ومع أنها أخذت شرعية دولية من عصبة الأمم المتحدة عام 1922 إلا أنها  لم تستقر نسبياً حتى عام 1926 على الحدود المعروفة للعراق وسورية وإمارة الأردن بدون الضفة الغربية وفلسطين التاريخية التي قدَم بلفور وعده لليهود بإقامة وطنهم القومي فيها، بعد سنة واحدة من إعلان الاتفاق الفرنسي- الانكليزي،  والحقيقة أن تلك المعاهدة  استمرت بالتعديل بعد ذلك  فتصرفت فرنسا بالجزء الذي وضعته تحت حكمها المباشر وهو لواء اسكندرونه مع مينائه المعروف، فأعطته للأتراك ترضية لهم،وسلخت عن سورية لبنان في البدء كإمارة لموارنته ثم ألحقت بها الأقضية الأربعة ليستطيع تكوين دولة مستقلة.

ولم ينتبه من تبقى من مسيحيي سورية إلى  عدم إلحاق منطقة وادي النصارى (السورية) بلبنان مع اتصالها الطبيعي به وغلبة المسيحين فيه، وقد نفسر ذلك  بكون معظمهم أرثوذكس تعتبرهم روسيا من حصتها، والموارنة قلة بينهم، والحقيقة الأهم أن ماتراه فرنسا صاحب الأولوية هو: الساحل اللبناني ذو الأهمية الاستراتيجية وتأتي بعده أهمية الداخل الذي يليه، كما أعطت انكلترا الساحل الفلسطيني لاسرائيل، وهكذا انتهت المعاهدة بالتحول الدائم لها عبر ما يقرب من ثلاثين سنة مراعية المصالح المتغيرة للدول الكبرى ولاسيما بعد هرولتهم لاستثمار آبار النفط المكتشفة وطرق تسويقها في المنطقة.

تلك المقدمة التي لابد منها لفهم دوافع طرح الآراء الروسية والغربية لامكانية تغيير الحدود التي ثبتت في ما بعد الحرب العالمبة الأولى والثانية  ستين عاما  ( هذا إذا اعتبرنا الجولان ضمن هذا الثبات) تركوها مملوءة بالألغام  وصاعقهم الرئيس أنظمة ديكتاتورية ساهمت مساهمة أساسية في تفتيت النسيج الاجتماعي ليصبح جاهزاً لتجديد سايكس- بيكو على يد كيري- لافروف، من جهة وليمنع نشوء الدولة الوطنية حتى على أجزاء تقسيماتهم من جهة أخرى.

عندما اكتشف أهل بلاد الشام ما فعلته فرنسا وانكلترا بهم كان موقفهم، الرفض التام لذلك التقسيم، لكنهم لم يستطيعوا لأسباب متعددة منع حدوثه،فوعد بلفور وجَه الأنظار للنضال ضد تهويد فلسطين، أعقبه فشل دولة فيصل السورية، ثم الاحتلال الفرنسي لسورية الصغرى بقوة السلاح، لكن الثورات الإقليمية استمرت تقاوم الاحتلالات المختلفة في نهجها الاستعماري والمتنافسة فيما بينها مما عرقل امكانية تشكل وحدة نضالية لأهل سورية الطبيعية،وبالتالي تشكل الهوية السورية من خلالها.

أما الدولة الوطنية التي نشأت بعد استقلال بلاد الشام عن الأتراك، والتي يُفترض أن تكون دعائمها قد ترسخت من خلال مقاومة الاستعمار ثم بعد استقلالها عنه فلم تتبلور في واقع الأمر، لأسباب متعددة، أهمها رفض السوريين لتقسيمات سايكس- بيكو وتحولاتها المستمرة، وإصرارهم على وحدة بلاد الشام وصولا إلى الوحدة العربية التي وجدوا في فكرتها حماية لهم وقوة يستندون عليها في مقاومة الأطماع الاستعمارية، وهكذا لم يذكرأي حزب سياسي نشأ في أثناء الاحتلال الفرنسي أو بعد الاستقلال، ولا أي تجمع مدني مسألة الهوية الوطنية السورية،بل عندما رفع أنطون سعادة لافتة الحزب القومي السوري كان يعني بلاد الشام كلها مع مابين النهرين والذي اصطلح على تسميته الهلال الخصيب ومع نجمة قبرص أيضاً.

وهكذا انشغل السوريون بهاجس إعادة المقسم إلى وحدته، والتمسك بالهوية الوحدوية والنضال من أجل تحرير فلسطين(جنوب سورية) وصولاً إلى الوحدة المصرية- السورية.

بعد انهيار الوحدة واستقرار القطرية وتقسيمات سايكس- بيكو على يد الديكتاتوريين الفاسدين، لم يستطع السوريون التفكير حتى بالهوية الوطنية بالرغم من الأناشيد والدعاية والإعلام و(أنا سوري يا نيالي)لم يستطيعوا تكوين الهوية الوطنية في ظلال الطائفية والتمزيق الاجتماعي وعملياً استمرار سياسة التفتيت، لكن هذه المرة بأيدٍ سورية...سارت في درب المحتلين السابقين خطوة خطوة ونجحت في تقسيم ما عجزوا هم عنه.

 عندما انتشر الحراك الثوري العربي ولعلعت الأصوات السورية مطالبة بدءاً بالإصلاح اشتعلت صواعق الاستبداد مفجرةً ألغام سايس- بيكو، وما بعدها، وكانت صواعق الديكتاتورية قد أوصلت المجتمع  إلى حرب طاحنة بثت الفوضى وجرَت   الويلات التي رأينا أولها وما زلنا بعيدين عن رؤية آخرها!!!؟وقد تظهر مابينهما إمارات للعلويين والدروز و الأكراد والتركمان، والسريان وبادية الدواعش و...و... لايعرف عددهن إلا ذو علم خبير.

 تأمل الثوريون مشاريع التفتيت الجديدة، باحثين فيها عن الوطنية السورية ودولتها التي لم يعرفها السوريون...والتي ربما تكون قد ضاعت بين الأسماء، متسائلين: هل أصبحت هي الأخرى بقايا حلم الوطن السوري، أو حلم" وطني الأكبر".

     

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات