أطفال حلب على شاشة التلفزيون الألماني

أطفال حلب على شاشة التلفزيون الألماني
يبدأ الفيلم الوثائقي الألماني "أطفال حلب" بجزئه الأول، بداية العام 2013 من على خط التماس في حي سيف الدولة الحلبي حيث تعيش عائلة أبو علي صليبا ويعمل الأب كقائد كتيبة مقاتلة، وهي مهنة جديدة على المهندس والمتظاهر السلمي، دفعه إليها ارتفاع وتيرة العنف والقتل، فحمل السلاح لأول مرة في حياته دفاعاً عن ثورة أمن بها حد التضحية بمستقبل أولاده، كما يقول:"أحياناً أحس انني ظلمتهم ببقائهم هنا على خطوط المواجهة، ولكنني أحاول أن أبني لهم عالماً جميلاً بلا ظلم واستبداد".

أما الأم "هالة قاسمو" فكما جمعتها الدراسة ثم الحب والزواج بأبو علي كذلك جمعتهما الثورة، وحتى بعد اشتداد المعارك رفضت هالة ترك حلب وبقيت مع أولادها الأربعة إلى جانب الأب، يحاولون الحياة معه كما اعتادوا بكثير من الحب والحنان.

ولهالة وصفاتها السحرية فدواء السعال يهدىء التوتر ويساعد على النوم، لذلك هو علاج نافع ضد رعب الصغار من القصف، هي حيلتها الأخيرة بعد أن كانت توهم الصغار بان أصوات المدافع هي ألعاب نارية، ولكن على الأبناء الشرعيين للحرب لا يمكن الكذب طويلاَ.

الأطفال:

محمد...الابن الأكبر، يتمنى لو أن الثورة كانت مجرد حلم يصحو منه سريعاً، فقد أصبحت حياة الإنسان لا تكلف أكثر من دولار واحد، أما الموت فهو لا يحبه ولكنه اعتاد النظر مباشرة في عينيه...

هيلين...الابنة الكبرى تعلم أخوتها الصغار القراءة والكتابة بعدما أغلقت المدارس ورحل المعلمون، وهي أيضاً لم تعد تخاف، فلم تعد تملك شيئاً تخاف فقدانه، الحياة بالنسبة لها أصبحت بلا معنى.

فرح...الابنة الوسطى تدعي الشجاعة ومساعدة والدها في صناعة القنابلاليدوية، ولكنها ترتجف عندما تسمع صوت انفجار قريب، ثم تداري خوفها بمحاولة تحليل مصدر الانفجار، وكخبيرة أسلحة محترفة تجزم أنها قذيفة مدفع، وحده الخوف المعشش في عينيها يكشف إلى أي مدى تخاف الأسلحة بكل أشكالها.

سارة...آخر العنقود، تنتظر والدها ليعود من القتال كما يعود الآباء عادة من العمل، لتتعلق برقبته وتستمع لحكاياته، التي لا يرويها عن أبطال اسطوريين بل عن أبطال حقيقين، يموتون أحياناً دون أن تكتمل النهايات السعيدة لحكايات الأطفال...

سارة، التي لم تكن يتجاوز عمرها الثلاث سنوات عندما بدأت الثورة أو الحرب كما تقول، تمد أصابعها الصغيرة، لتحصي كم من السنوات ستستمر الحرب...وعندما تجدها عشرة، تصرخ برعب: "كل هدون لسى!".

هي دائماً حروب الكبار ولكن الصغار يدفعون الثمن الأعلى ويكبرون قبل أوان الطفولة، مثقلين بهموم الكبار ومحرومين من أبسط شروط الحياة: حيث لا مدرسة ولا تعليم، لا ماء ولا كهرباء، ولا ساحات أمنة للعب،

الصغيرات سارة وفرح اخترعتا ملاعب بديلة لطفولتهما، فبين الشقق المهجورة متسع للركض والاكتشاف...

أما الألعاب فكثيراً ما تعود بهم إلى أجواء القتال وشخوصها، فكل ما يدور حولهم وكل ما يسمعونه من الكبار هو عالم متوقف في "حالة حرب"، على الطرف الآخر من بستان القصر، غير بعيد عن منزل عائلة أبو علي، يعيش طفل آخر من أطفال حلب.

طفل كبر كثيراً وشاخت ملامحه منذ أن تبنته الثورة وجعلته منشدها...عبودةالصغير صار "قاشوش حلب"، وأصبح التظاهر مهنة يمارسها الصغير مقابل وعد الحرية، ينتهي الجزء الأول من الفيلم بعيداً عن توقعات المخرج وتوقعاتنا كمشاهدين، باعتقال داعش لشقيق عبودة "الثائر أبو مريم" ولوالد الأطفال الأربعة "أبو علي". نهاية تشبه مألات الثورة التي سُرقت وغُيبت وجوهها وأهدافها من قبل الاستبداد الأسدي والداعشي.

وتبقى الجملة الفصل والأخيرة لعبودة الصغير فيقول: لا خيار أمامنا إلا الاستمرار، فإن سكتنا اليوم سيأتي الدور علينا غداَ.

قدر أطفال حلب "ألمانيا...الوطن الجديد"

في الجزء الثاني من الفيلم، والذي عُرض مؤخراً على القناة الثانية الألمانية، يعود المخرج مارسيل متلسيفن من جديد إلى أطفال حلب الأربعة، فيجدهم في "حالة انتظار"...انتظار لعودة الأب والثورة والوطن المختطفين جميعاَ برسم الطغاة القدامى والجدد...

تصوير الجزء الثاني يجري في ربيع 2014، وكل شيء يجري على قدم وساق لهروب العائلة من جحيم حلب، سارة الصغيرة لا تنسى قبل أن يتركوا البيت أن ترسم خارطة الطريق لوالدها، وفي سيارة الأجرة التي ستقلهم إلى تركيا، تنظر الصغيرة من النافذة وتقول: "أحبك سورية، على باب غرفتي قصصت قطعة من قلبي وألصقتها ليراها بابا ويلحق بنا".

أما محمد، الأخ الأكبر فيودع الأمكنة التي تعبرها السيارة وكأنها أخر مرة: "وداعاً مدرستي ...وداعاً أصدقائي...وداعاً جدتي...وداعاً حلب...سأشتاقكم".

ثم تمضي العائلة في طريقها المحفوف بالمخاطر، لتنتهي في مخيم للاجئين السوريين على الحدود التركية، في الطريق تتوقف السيارة أمام شاطئ مهجور، وفي مشهد بديع للأطفال الخارجين من جحيم الحرب، وهم يغتسلون بمياه البحر ويلاعبون الأمواج، تصرخ الصغيرة فرح وهي مبتلة بالفرح: أنا لا أخاف...لقد انتصرنا!

وتمضي بعدها الكاميرا مع العائلة إلى استنبول، حيث كل شيء يبدو طبيعياًهناك لولا ذاكرة الحرب، فبينما تلعب سارة مع أختها هيلين في الحديقة العامة، يصيبها تحليق طائرةركاب عادية بنوبة ذعر مفاجئة، فصوت الطائرة أعاد إليها رعب طائرات النظام التي ترمي البراميل المتفجرة فوق المدنيين.

نهاية مرحلة استنبول نراها في مسحة السعادة التي تظهر على وجه الأم، وهي عائدة من السفارة الألمانية وفي يدها جوازات اللجوء، والواقع أن العائلة تعتبر محظوظة في وصولها إلى ألمانيا أوائل صيف 2014، حيث أبواب اللجوء كانت لا تزال مفتوحة أمام السوريين، حتى أن العائلة تمكنت من السفر عبر الطائرة لا من خلال قوارب الموت المطاطية، كحال عشرات العائلات السورية فيما بعد...

لاجئون في ألمانيا

"ولا بيت مهدم هنا"، هي الجملة الأولى التي تقولها الأم وهي تعبر المدينة الألمانية الصغيرة، ثم يختنق صوتها قليلاً وتضيف: "تهدمت بلدنا واختفى أبو علي ولم يبق لنا شيء، أريد أن أبني لأولادي مستقبلاً جديداً في هذه البلاد ليعودوا ويبنوا بلادهم".

أما سارة الصغيرة فتتعرف على المدينة بأقدامها لا بعينيها، وتكتشف لأول مرة متعة الرقص حافية في الشوارع النظيفة الأمنة والتي لا تقصفها الطائرات، بعدها يترك المخرج العائلة في انشغالها في اكتشاف العالم الجديد ومكانها فيه، ليعود مجدداً بعد مرور سنة تقريباً، فنجد الصغار وقد اندمجوا في البيئة الجديدة، وبدأوا بتعلم الألمانية ومصادقة الأطفال الألمان.

رغم أن الجو العام بدأ بالتغير بعد موجة الهجرة والشحن العنصري المضاد، وأصبح الأولاد يسمعون عبارات من قبيل، "لماذا تأخذون مساعدات من أموال دافعي الضرائب؟" أو "عودوا لبلادكم؟" أو "لماذا لا تعمل والدتكم"؟

ولكن هذا لم يمنع العائلة من التطوع لمساعدة اللاجئين الجدد، وتقديم النصح والمشورة لهم من واقع الخبرة مع الغربة واللجوء، فلا أحد يختار الاغتراب بملء ارادته وكل انسان غريب في مكان ما...

هيلين...الابنة الكبرى ورغم أنها نزعت حجابها وصارت تشبه صديقاتها الألمانيات، وبدت سعيدة بحرية لم تكن تعرفها في سورية، ولكنها لا تنسى من أين أتت ولا تنسى والدها الذي ضحى بكل شيء من أجل وطنه وتقول: اليوم فهمت أن الوطن هو بالنهاية كل شيء، أما محمد، فيبحث عن جذوره في القرآن، ويحلم بالعودة قريباً، ألمانيا ليست وطناً بديلاً، هي محطة عبور للتعلم والاكتشاف أما القلب فمازال في حلب...

هالة الأم...فتبدو وكأنها تتابع حياتها على مضض، أمامها فنجان القهوة الفارغ لزوجها أبو علي، فهي مازالت كعادتها تشرب القهوة الصباحية بصحبته، وإن كانت الصحبة اليوم مجرد صورةفي هاتفها الخليوي...

تمسك الهاتف الصغير وكأنه قطعة من روحها وتقول: "هنا صور زوجي وأهلي وحلب، هنا ذاكرتي وكل ما أملك، أشعر أحياناً أنني ميتة وإن كنت حية، وأحسد الأموات، فلا حاجة لهم للتفكير أين سينامون وكيف سيأكلون"، هكذا تصف هالة نفسها، وهي بعيدة عن حلب وبعيدة عن زوجها المختطف ومصيره المجهول...

كثيراً ما تتفقد وجهه بين صور ضحايا التعذيب والقتلى على الصفحات الالكترونية، وحتى عندما لا تعثر عليه، لا يغادرها إحساس بالقلق من أنه ربما سيكون في صورة قتيل قادم.

ربما يكون حال هالة يشبه حال الكثير من السوريين اليوم، وقد فقدوا أحبتهم وبيوتهم ومدنهم والأهم فقدوا معنى الثورة والحياة، ولكن أهمية الفيلم تكمن في أنه موجه للجمهور الغربي، وقدرة المخرج على اكتشاف مكامن الجمال في هؤلاء الأطفال، من خفة دم سارة الصغيرة إلى ذكاء فرح وتمرد هيلين ومسؤولية محمد العالية...

لقد منح الفيلم الضحايا أسماءً ووجوهاً، وابتعد عن تقريرية نشرات الأخبار، كما ابتعد عن استعراض العنف المجاني، فلكي نفهم تأثير الحرب وبشاعتها، لا نحتاج لعرض الجثث المشوهةولا الدماء المسفوكة، بل يكفي أحياناً أن نرى الرعب الساكن في عيون الصغار، أو نسمع صرخة فرحهم المكبوتة أمام البحر، أو نكتشف معنى الضغط النفسي الذي يتفرغ في لعب سارة مع فرح لعبة أطلقوا عليها اسم "داعش"، وكأنهم يحاولون هزيمة الخوف بملاعبة أشباحه.

اللاجئ في فيلم مارسيل متلسيفن ليس مخلوقاً عجائبياً ولا ارهابياً، وليس رقماً ولا عبئاً اقتصادياً، هنا حكاية أسرة سورية جميلة حكمت عليها الحرب باليتم والتشرد والاغتراب، وكما في الحياة نهاية الفيلم مفتوحة على كل الاحتمالات.

حيث عودة العائلة مرهون بمصير الأب وبمصير حلب، تلك المدينة الساحرة والموغلة في التاريخ، التي تدمر فيها الحجر والبشر والشجر..

شخصياً سأعترف أنني أنا الحمصية الأب والهوى، والدمشقية الأم والمولد، كنت وما زلت عاشقة لمدينة حلب، فلا عمارة كانت تضاهي شرفات منازلها المطرزة كالدانتيل، ولا متعة كانت أكبر من الضياع في أسواقها الملتوية، ولا نكهة تشبه اختمار الكباب في نبيذ كرزها، ولا طرب يلامس الروح كقدودها الحلبية، وحتى خشونة لهجة سكانها كانيعوضها جمال صباياها...

في ألمانيا، حيث تعيش عائلة أبو علي اليوم، لا مدن شاهدة على ما قبل الحرب العالمية الثانية، فالحرب تلتهم أرواح المدن وتمحي ذاكرتها، وبدمار حلب لا يموت الجزء الأجمل من الذاكرة السورية بل من ذاكرة المنطقة بأكملها.

لا أدري لماذا تذكرت في نهاية الفيلم، الورقة الصغيرة التي علقتها سارة على باب غرفتها، أحسستها تلتصق بالباب كما تلتصق صورة الأب في ذاكرة الصغيرة وكما التصقت أرقام الجثث في سجون الأسد على جباه القتلى تحت التعذيب، فيما بات يعرف باسم صور قيصر...

قد تتهدم حجارة المدن...ولكن تلك الأوراق الصغيرة الملتصقة بذاكرة الأبناء وبأبواب البيوت وبأجساد الضحايا، تبقى عصية على كل وسائل الإبادة والحرق والتنكيل، نعم لحلب ذاكرة..ولحمص ذاكرة...ولدرعا ذاكرة...

ولسارة الصغيرة ذاكرة معلقة على أحد أبواب حلب، ربما لن تدل أبو علي على طريق الخروج من الجحيم.. ولكن من المؤكد أن تلك الورقة الصغيرة ستدل يوماً ما سارة وأخوتها على طريق الرجوع إلى حلب، وستدل العدالة الدولية ليس فقط على اسم القتيلبل على اسم القاتل أيضاً.

 

التعليقات (2)

    محمد هشام التوبة

    ·منذ 7 سنوات 11 شهر
    مقال رائع ست آية..ووصفك للفيلم كأننا حضرنا ..اين تم تصوير الفيلم ؟

    مجدي حمدون

    ·منذ 7 سنوات 11 شهر
    اية الاتاسي ستظل هي الذاكرة والبقية الباقية من روائع الزمن الجميل.شكرا للاميرة الاتاسية.
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات