الأقليات مجال للتوظيف والتلاعب

الأقليات مجال للتوظيف والتلاعب
في البلدان ذات النظم المستبدة فقط يتم اختراع فكرة، أو سياسة ’الأقليات’، لأغراض التلاعب، وترسيخ الاستبداد، والتملص من دولة المواطنين الأحرار.

برز مفهوم الأقليات، الذي يتحدث عن جماعات بشرية متمايزة على أساس الدين أو المذهب أو الأصول القومية، في معمعان ثورات الربيع العربي، أكثر من أيّ فترة مضت، ولا سيما في المشرق العربي وبخاصة في سوريا والعراق.

لا يعني ذلك أن غياب هذا المفهوم يعود إلى غياب تلك الجماعات، إذ أنه، في الحقيقة، يعود إلى تغييبها، أو محاولات تذويبها أو تهميشها، في ظل أنظمة اشتغلت على تهميش شعوبها، وتقييد تطور مجتمعاتها، وإعاقة ظهور دولة المواطنين، أي دولة المؤسسات والقانون.

وفي الواقع فقد ظهر مصطلح الأقليات باعتباره من أكثر المصطلحات التي بات يجري التلاعب بها، وتوظيفها، من قبل النظم الاستبدادية، في محاولاتها تبرير ذاتها، وترسيخ هيمنتها على البلاد والعباد، دون رقيب أو حسيب، كما في محاولاتها وأد الثورات أو حرفها عن غاياتها النبيلة والمشروعة.

ولعل هذا يظهر جليّا في خطابات النظام السوري، الذي بات يروّج لنفسه باعتباره «حامي الأقليات»، بعد أن أمعن في إفساد الحياة العامة، وصادر تاريخ سوريا وبدّد ثقافتها وهمّش كل مكوّناتها المجتمعية. ومن مراجعة التجربة السورية، يمكن ملاحظة أن النظام السوري اشتغل على هذا الأمر في إطار ثلاث عمليات مترابطة، أولاها، تتمثّل بحؤوله دون قيام دولة المواطنين الأحرار والمتساوين.

وثانيتها، تتمثل بانتهاجه سياسة «فرق تسد» بين المواطنين، وإقامته جدرانا وسدودا وخنادق بين مختلف الأطراف المكونة لمجتمع السوريين. وثالثتها، تتمثل بتنميط المجتمع، وإنكار حال التنوّع والتعدّدية فيه، لحجب طبيعته كسلطة استبدادية. وطبعاً، فإن هذه العمليات تضافرت في مجمل الأحوال مع تسلط النظام على الدولة، واحتكاره لمواردها، ومع تغوّله على المجتمع بواسطة الأجهزة الأمنية الواسعة والمتشعّبة.

على ذلك، يمكن النظر إلى فكرة «الأقليات» الدينية والإثنية باعتبارها من اختراع النظم الاستبدادية الشمولية، فهي التي تشتغل عليها، وتحوّلها إلى عصبيّات هوياتية، تماماً مثلما يحصل في شأن دفع الطوائف نحو الطائفية، أو في شأن اختراع الطائفية لأغراض سياسية.

ويفيد الحديث عن فكرة الاختراع هنا بأنه لا يجوز تحويل جماعات من المواطنين إلى «أقليات» على أيّ خلفية كانت، أو لأيّ سبب يميّزها، فهذا قد يجوز، فقط، على جماعات بشرية وفدت في مرحلة تاريخية معينة إلى بلد ما من خارجه، لكنه لا يشمل الجماعات الدينية والإثنية التي تعيش فيه عبر التاريخ، إلا لجهة التوصيف ربما.

والمعنى، أنه لا يصحّ، ولا بأيّ حال، اعتبار الطوائف الدينية (مسيحية أو إسلامية سنية وشيعية ودرزية وعلوية واسماعيلية) مجرّد أقلّيات، فالطوائف شيء والأقلّيات شيء آخر. وبديهي أن ذلك يشمل الجماعات الإثنية، أيضا، مثل الأمازيغ في منطقة المغرب العربي والكرد في المشرق والنوبيين في صعيد مصر، فهؤلاء ليسوا أقليات، كونهم لم يهبطوا من السماء بـ”البراشوت”، ولم يأتوا من الخارج، وليس لهم وطن آخر، وهم ولا يقلون في ذلك عن غيرهم بأيّ شيء.

ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني، أولا، أن النظم التسلّطية، التي هيمنت للعشرات من السنين، وحالت دون قيام دولة المواطنين ودولة المؤسسات والقانون، هي المسؤولة عن ضعف الاندماج الاجتماعي بين مواطنيها، كما عن إبقائهم عند حيّز الانتماءات قبل الوطنية (العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية).

ثانياً، فإن هذا يعني أن مصطلح «الأقليات» مصطنع ومزيّف وملتبس، كونه يخرج مواطنين كثر من نطاق المواطنة، ويعاملهم كغرباء أو وافدين أو طارئين على وطنهم، كأنّ لهم وطنا آخر. ومثلا، فليس من المعقول أن يكون يوسف العظمة وإبراهيم هنانو وجول جمال وفارس الخوري وسلطان باشا الأطرش، وغيرهم كثر، من الشخصيات التي أسّست لتاريخ سوريا، وصاغت هويتها الحديثة، من “الأقليات”، فهذا إجحاف ليس بحق هؤلاء فقط، وبحق ما يمثلونه، وإنما هو إجحاف بحق سوريا، الدولة والمجتمع، وبتاريخها وثقافته.

ويستنتج من ذلك أن الوعي بالمواطنة، وحقوق المواطنة، والتي تحيل المجتمعات إلى مجتمعات حقا، والتي تجعل الدول دولا حقا، كانت هي الغائب الأكبر خلال العقود الماضية، بعد أن غيّبتها نظم الاستبداد، بديماغوجيتها، وشعاراتها، وادعاءاتها الفارغة والمزيفة والعبثية.

جدير بالذكر أنه ليس ثمة مجتمعات أو دول صافية، دينياً أو عرقياً، فكل البلدان والمجتمعات تنطوي على مكونات دينية وإثنية وهوياتية مختلفة، لكن في البلدان ذات النظم المستبدة فقط يتم اختراع فكرة، أو سياسة «الأقليات»، لأغراض التلاعب، وترسيخ الاستبداد، والتملص من دولة المواطنين الأحرار. بالمقابل ففي البلدان الأخرى، حيث تسود دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، فهي تفتخر بتنوعها الديني والإثني وتستثمر فيه، باعتباره دليل عافية وحيوية وغنى. أي أن هذه الدول تعترف بتنوع مواطنيها، وتعدديتهم الهوياتية والدينية والإثنية، ولكن من دون الحاجة إلى فكرة الأقليات أو سياسات التلاعب بالأقليات أو بالطوائف.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات