السياسة والحليب

السياسة والحليب

لي صاحب استهوته السياسة وسحرته حتى أخذته من الشلة إياها، فلم نعد نراه إلا في المناسبات، دعانا قبل أيام إلى حفلة غداء في قصره العامر بمناسبة تعيينه وزيراً!

لبينا الدعوة، وحملنا إليه بعض الهدايا التي تليق بالمنصب الجديد، وجلسنا نتناول الغداء، فعجبت للوزير يكتفي بشرب الحليب ولا يتناول شيئاً من الأطعمة الشهية والمشروبات المنوعة التي ملأت المائدة ، فسألته عن ذلك، فأجاب وهو يضحك ضحكة راسخة :

- أريد أن أبيّض قلبي

ضحكت، وقلت ممازحاً : لكن، ألا تعلم معالي الوزير أن أصحاب القلوب البيضاء يفشلون في السياسة؟! فهل أنت عازم على الفشل بعد النجاح الكبير الذي حققته؟!

كرع وجبة جديدة من الحليب وأجاب :

- لا، طبعاً، لا أريد أن أفشل !

ونادى خادمه فطلب منه زجاجة جديدة من الحليب، ونظر إليّ مع ابتسامة ساخرة قبل أن يضيف :

- يا صديقي، طمن بالك، فأنا أبيض قلبي من الخارج فقط ، أما من الداخل فهو كلب ابن كلب!!

وضحك ضحكة ساخرة، وأخرج غليونه الفاخر وراح يجهزه للتدخين، فعجبت لحاله وأحوال السياسيين كيف تستهويهم السياسة التي تنتهي ببعضهم إلى المناصب الرفيعة وتدخين الغليون الفاخر وشرب أرطال من الحليب يومياً، وينتهي بأكثرهم إلى السجون وحبال المشانق، وفي أحسن الأحوال إلى التشرد والمنافي البعيدة، بعد شهور من الانتظار على بوابات السفارات الأجنبية استجداء للجوء السياسي !

وعدتُ أتأمل الوزير فرأيته يسترخي في مقعده وهو يدخن غليونه بشراهة وينفث دخانه دوامات متلاحقة وصلت إلى عنان السقف، فقلت له :

- معالي الوزير ! الآن وقد أصبحت وزيراً ماذا تنوي ؟

وضع الغليون جانباً وفتح زجاجة حليب جديدة وملأ منها كأسه ورفعه إلى فمه وهو يقول :

- سأواصل شرب الحليب حتى أصبح رئيساً

وملأ كوباً من الحليب وقدمه لي ، فشكرته واعتذرت قائلاً:

- آسف، فقد فطمت نفسي عن الحليب والسياسة بعد أول محاكمة لي بسبب مقال أزعجت أجهزة الأمن!

فضحك الوزير ووضع كأس الحليب جانباً، ورفع زجاجة الحليب إلى فمه وراح يكرع منها بنشوة ويختلس نحوي نظرات ذات مغزى، ثم ترك الزجاجة وقال لي : أما أنا فلن أفطم نفسي عن الحليب قبل أن أصبح رئيساً !

ضحكت، ونظرت إليه مشفقاً، وقلت :

- رفقاً بقلبك يا صديقي! فتلك قد تعني النهاية !

فردّ عليّ في ثقة وشيء من العتب :

- اطمئن يا صديقي، فالحليب عندي يشتغل على السطح فقط ، أما داخل القلب فهو كما قلت لك، لهذا أنا واثق من الرئاسة!

فرفعت كأس الشاي ومددته نحوه وقلت :

- إذن كاسك ! سيادة الرئيس !!!

فرفع زجاجة الحليب عالياً بحركة متعجلة جعلت الحليب يندلق على بدلته السوداء .

فانفجرت ضاحكاً بيني وبين نفسي وأنا أرى الوزير أبيض من الخارج، أسود من الداخل، واستأذنت وقمت أمضي تاركاً إياه يمسح البياض عن خارجه، ويحلم بالرئاسة في داخله !

د. أحمد محمد كنعان

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات