لست طبيبا أنا مريض مثلكم

لست طبيبا أنا مريض مثلكم
أنا مريض، وأنتم الأطباء

كنت أنظر إلى الحائط القصير، فأخشى إن أنا حاولت القفز عليه أن أتعثر في الهواء فأسقط على وجهي، فتسقط مع سقوطي أسناني البيضاء الجميلة فأمضي بقية عمري أدردا بلا أسنان يتغامز علي الناس ويشير إلي الصبية بأصابعهم هازئين، تنتابني حالة من الذعر والرهاب من أشياء مستحيلة الوقوع في عرف الإنسان العادي،  لكنها في عرفي أقرب إلي من أرنبة أنفي.

خوفي لم يكن مقصورا على خشية الألم من سقوطي على وجهي وأنا أقفز على الحائط القصير، بل تجاوزه ليشمل أشياء غير ملموسة، فكنت أرتاب من المكوث وحيدا مخافة الجن، وكنت أهاب الخروج ليلا مخافة اللصوص وقطاع الطرق.

كنت أكتم أمراضي ولا أبوح بها إلى أحد، حتى أمي التي يفترض أنها أقرب الناس إلي لا أبث إليها شكواي، وإنما ألوذ بالصمت والهدوء المصطنع وفي قرارتي تتصارعني الأمواج وتتقاذفني العواصف.

كنت أنظر إلى الناس كافة أنهم أسوياء، يجيدون فن الحياة، يتكلمون فيحسنون، يعملون فيتقنون، يناقشون فيقنعون، فكنت أردد دوما حينما أختلي بنفسي:

إنهم أطباء وبيدهم علاجي، علي أن أجتمع معهم، وأستفيد منهم ومن خبراتهم.

ثم أنظر إلى نفسي نظرة دونية محتقرة، وأبدأ في الجلد الذاتي دونما رحمة أو شفقة:

سُحْقًا لي من فاشل، تَبًّا لي من رعديد، ما هذا الكم الهائل من الفوبيا الذي أعيشه؟ فوبيا من الارتفاعات، فوبيا من نباح الكلاب، فوبيا من السباحة، فوبيا من الحديث أمام الناس، فوبيا من الوحدة...

أقف أمام المرآة في أحايين كثيرة، وَأَتَخَيَّلُنِي أمام الناس فأضغط على أعصابي وأصيح بشدة:

أنا مريض وأنتم الأطباء !

بحثت في الانترنت عن تفسير لحالتي، فوجدت أنهم يسمونها في علم النفس بالوسواس القهري، فتنفست الصعداء وزفرت بحرارة لأنني لست الوحيد الذي اعتراه هذا المرض، لكن سرعان ما عاد المارد الذي يسكنني ليكدر علي صفو مزاجي قائلا: الصوت الذي ينبهك ليس وسواسا إنه صوت الضمير، ويحك أترضى أن تخالف فطرتك وتتبع أهواء قوم ضلوا؟

ثم ما لبث أن أردف المارد معاتبا:

هؤلاء قوم تفرقت بهم السبل، فبدؤوا يُسَمُّونَ صوت الضمير بالوسواس القهري، أنت لست مريضا، بل هم المرضى إِذْ ما بقي لصوت الضمير عليهم سلطان.

أَقْنَعَنِي المارد فأغلقت صفحات الويب التي كنت أطالعها وكلي يقين أن علماء النفس هم المرضى، وأنهم في مكانة دون مكانتي، فأخذتني غمرة الغرور للحظات، فابتسمت بكبرياء وأنا أردد في نفسي: لست مريضا، أنتم المرضى.

أنا طبيب، وأنتم المرضى

كنت أعلم أن قلقي وخوفي لم يمت، لكنني بنيت عليهما وهما جديدا، فتخيلتني طبيبا بارعا يفهم حالة البشر المرضية، وبدأت أعامل الجميع وفقا لهذا التصور الطارىء، أذكر أنني تحدثت مع والدي بشدة وبلهجة خشنة حينما وجدته يشرب الماء باردا بعد وجبة دسمة، أحسست بتأنيب الضمير ساعتها، لكنني ما لبثت أن عدت إلى غطرستي وهمست بهدوء: إنما أقسو عليه لمصلحته !

بدأ الناس يتعاملون معي بطريقة مختلفة، فصار أصدقائي يتحاشون اللقاء بي، والدي بدأ يقلق علي أكثر من ذي قبل، أما أمي المسكينة فإنني كنت أسمع همهماتها عند الدعاء فلا أميز منها إلا قولها: "اللهم رد إلينا ابننا ردا جميلا"، يعجبني هذا الدعاء فأردد خلفها: اللهم رد أمي وأبي وسائر الناس إلى صوت الحق ردا جميلا.

كنت على يقين أنني أمسك الحق في يدي، كما تمسك العجوز عكازتها، وكما يمسك الأعمى عصاه، لم أشك للحظة، أنني زدت على مرضي القديم مرضا جديدا، وكيف أعي ذلك وأنا سعيد جدا بما بلغته من نبوغ وتميز.

بدأت أرد على شيوخ الدين في صفحتي على الفيسبوك، أرد أحاديث شتى لأنها لا توافق مزاجي، أوزع اللايكات على مقاطع السخرية من الغير، لم يستطع أحد إيقافي حينها، ليس لأنني قوي الحجة، ولكن لأنني ثور أنطح كل ما يأتي أمامي.

وصلت إلى حالة هستيرية من الإعجاب بالذات صرت أرى معها كل قول غير قولي سخفا، وفي كل نصيحة تسدى إلي ضعفا.

أيها الناصحون، احتفظوا بأغراضكم لأنفسكم، فإن عقلي الكبير لا يستحمل سخافاتكم !

مع مرور الزمن، بدأ اليأس يتسرب إلي، ثم تلاه الأرق، ثم تلاه فقدان كل لامع لبريقه، فما عاد يغويني شيء..

وصلت إلى حالة من التعب النفسي والفراغ الروحي لم أصلها من قبل..

حاول المارد مجددا أن يصور إلي هذا المرض على أنه نعمة فقال لي:

ما لك لا تستحمل سطوة العقل؟ إنما هذا التعب مرجعه إلى عقلك الضخم، وما استراح من كان له عقل كعقلك.

كاد يقنعني هذه المرة أيضا، لولا أن صداع الرأس جَرَّاءَ الأرق حال دون ذلك، فَغِبْتُ في دوامة من الأفكار كدت أن أفقد عقلي معها، فأوقفت هذه المعمعة وأنا أصيح:

لست طبيبا أنا مريض مثلكم !

لست طبيبا أنا مريض مثلكم !

"كلنا مرضى" أهون علي من أن أكون مريضا دون العالمين، أو طبيبا على عيادة من المرضى تمتد من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي.

ما لي وللناس؟ سأحيى حياتي وفق الخط المحمدي، وَأَعْظِمْ به من خط !

أما خوفي من المجهول فقتلته بالإيمان بالقضاء والقدر..

وغروري وتكبري قهرتهما بالتواضع وخشية الرحمن وخفض جناح الذل من الرحمة لوالدي، وألا أمشي في الأرض مرحا.

هكذا علمني الإسلام، وهكذا انتشلتني أنامل الرحمة من براثين العذاب، فالحمد لله رب العالمين !

التعليقات (2)

    غرباء

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    تحية كبيرة إليك ...أسلوب رائع

    zeya

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    قرات الموضوع بالصدفة ..........الوسواس و الخوف من كل الشيء التفكير في كل شيء و توقع الاسوء اهادا مااعانيه منذسنوات
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات