إلى اليمين دُرْ

إلى اليمين دُرْ
كان ينقص الصعود اليميني، القومي، الأوروبي، في مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية في الغرب، استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. لم يحلم اليمين المتطرّف الفرنسي والنمساوي، والألماني والهنغاري (وما يشبهه في اسكندنافيا) أن يأتيهم هذا الدعم المليوني الهادر من الشارع البريطاني العادي. فها هو بلد "المغانا كارتا" يقول لا، بالفم الواسع، لأبرز ما تمثله فكرة الاتحاد الأوروبي: الخروج من الرأسماليات القومية المتصارعة إلى أفق أوروبي، بلا أيديولوجيات قومياتٍ قادت بلادها إلى أسوأ حروبٍ عرفها العالم في تاريخيه، القديم والحديث. 

فأوروبا فيها الفرنسي والبريطاني والألماني والإيطالي هي أوروبا تتقاسم المغانم (بلا مغارم تقريباً) بالتراضي، أوروبا لن تحتكم إلى السلاح في ما بينها، أو من أجل السيطرة والنهب خارجها. فها هي السوق والسيطرة والنهب مقنَّنة وخاضعة لدستور، لكنَّ هذه الفكرة الأوروبية التي حاولت النخب الثقافية والفنية، لبلدان القارة العجوز، أن تضخ فيها محتوى حضارياً وتقدميّاً، صارت، تقريباً، وراء ظهورنا.

المفاجأة في الاستفتاء البريطاني ليست نتيجته، بل ما كشف عنه من ميل إنكليزي جارف للعودة إلى القوقعة الأولى، والانعزال وراء أمواج الجزيرة المتلاطمة، والموقف الرافض للآخر، الأوروبي الذي تربطه به أكثر من رابطة وقاسم.. فما بالك بالآخر القادم من البلاد التي تحجِّب النساء وتقطع الرؤوس؟

هذه مفاجأة استفتاء بريطانيا غير البريطاني إلا بالاسم. فمن قالوا لا لأوروبا لم يكونوا اسكتلنديين ولا أيرلنديين، بل إنكليز وبعض الويلزيين. قلب الرفض إنكليزي، فالاسكتلنديون والأيرلنديون الشماليون (رغم الاستيطان الإنكليزي في شمال أيرلندا على غرار الاستيطان الإسرائيلي) قالوا نعم لأوروبا. ما يعني: لا لبريطانيا غير أوروبية. وهذا استفتاء آخر ملزم للقوى المحلية الحاكمة (البرلمان الاسكتلندي والكيانات السياسية الأيرلندية).

سيكون أمام الفائزين بالاستفتاء ورطة الفوز الثقيلة: تفضلوا حلّوا الانقسام النصفي في البلاد، وتفضَّلوا حافظوا على "المملكة المتحدة" بعلم اليونيون جاك، وتفضلوا، بعد هذا كله، دعوا السماء تمطر منَّاً وسلوى، كما وعدتم جموع الكادحين الإنكليز الذين قيل لهم إن المهاجرين ينافسونهم على كلِّ صعد العيش وأبوابه.

ومثلما عكس الاستفتاء البريطاني مطامح مختلفة لأبرز قوميتين بريطانيتين، بعد الإنكليز، بيَّن كذلك انقساماً عُمْرياً: شباب وكهول. فمعظم الشباب صوَّت للبقاء في أوروبا، فيما صوَّت معظم من هم فوق الخمسين للانفصال. والأغرب أن يجمع هذا الاستفتاء قاعدة حزب العمال البريطاني الكادحة بالنخبة اليمينية لحزب المحافظين الحاكم، وحزب الاستقلال اليميني شبه العنصري. فهذان هما التياران اللذان قادا حملة الانفصال عن أوروبا على أرضية الأزمة الاقتصادية الأوروبية (بل العالمية الخانقة) وبشعاراتٍ مبسَّطة، كما هو دأب شعارات المتطرفين دائماً: الأبيض والأسود، الأنا والآخر، المتحضّر والبربري، المؤمن والكافر، إلخ..

الفوز بالاستفتاء شيء، والتعامل مع نتائجه شيء آخر. ويبدو أن الذين هيَّجوا الجماهير الإنكليزية الكادحة، قليلة التعليم، خارج المدن الكبرى، ورفعوا بوسترات تصوّر سيلاً من المهاجرين، لا يملكون أجوبة اليوم التالي. ماذا بعد الانفصال عن سوق وعلاقات سياسية وثقافية واجتماعية في كيانٍ أوروبي كبير مضى على وجود بريطانيا فيه أكثر من خمسة عقود؟

هذا سؤال نتركه للجماهير البريطانية، لتسأل النخبة اليمينية الغوغائية التي قادتها إلى انفصال لم تهيئ البلاد نفسها له تماماً. ما يهمنا، ويهم العالم، ألا يعطي فوز اليمينيين الإنكليز بنتائج استفتاء الانفصال عن أوروبا دفعةً قوية لليمين الأوروبي المتطرّف الذي يبدو أنه على وشك أن يصل إلى الحكم في غير بلد أوروبي. فعالم فيه شخص غوغائي مثل نايجل فراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني (استقلال بلد لم يُحتل في عصوره الحديثة قط، بل احتل نصف العالم!) وفيه على الطرف الآخر من الأطلسي شخص مثل دونالد ترامب، هو عالمٌ لا يُطمئن أبداً، دعونا لا ننسى، في هذا السياق، اقتراب مارين لوبان الحثيث من الإليزيه.

الغوغائية والتبسيطية والتلاعب بعواطف الجماهير وحاجاتها هي التي أنتجت الفاشية أكثر من مرة في التاريخ. يكفي أن أخبركم أنَّ حزب نايجل فراج قاد حملته للخروج من أوروبا ببوستر (ملصق) عملاق يصوِّر سيلاً من المهاجرين (السوريين) مشابه لبوستر استخدمته الدعاية النازية في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن، ماذا فعل جماعة فراج: حذفوا وجه رجل أبيض (أوروبي) يظهر بين اللاجئين السوريين! اكتشفت الميديا البريطانية هذا الأمر. فضحته. علَّقت عليه، لكنَّ ذلك لم يؤثر، قيد أنملة، على تقدّم حملته بين الجماهير.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات