دير الزور الشهيدة تفضحكم

دير الزور الشهيدة تفضحكم
حدثان سوريان مرعبان جرت وقائعهما في محافظة دير الزور، الأول هو قصف الطيران الروسي لمدينة القورية والذي أسفر عن استشهاد 47 شخصاً بينهم 31 مدنياً غالبيتهم من الأطفال، أما الثاني فكان قيام تنظيم (الدولة) داعش بإعدام خمسة ناشطين إعلاميين بطرق وحشية غير مسبوقة، بتهمة إرسال الأخبار والمعلومات لوسائل إعلامية من بينها (المرصد السوري لحقوق الإنسان).

دير الزور المنسية والمهملة من قبل الوسائل الإعلامية السورية والعربية والعالمية على حد سواء، عادت إلى الواجهة، ولكن للأسف، لم تستطع عيون الإعلام هذه المرة، ومثل كل مرة، أن تنظر نحوهما بعينين اثنتين، بل قامت بإغماض عين عن مجزرة القورية، وفتحت العين الأخرى باتساع على المذبحة بحق الناشطين الإعلاميين.

بداية، لا نستطيع من موقعنا كسوريين أن نتجاهل أي جريمة بحق أهلنا، ولهذا تجدنا نتابع ما يجري ونوثق ونسجل الوقائع، ففي واقع الحرب الإجرامية ضد المدنيين، لا مجال للتغاضي عن أي نقطة دم، وجميعنا يدرك بأنه في وقت ما ستكون كل هذه الوثائق على طاولة الدراسة والتدقيق، بوصفها أدلة على جرائم الحرب المرتكبة ضد السوريين، ولهذا فإن الجريمتين بالنسبة لنا، تتساويان من الجهة الجنائية، وقبل هذا، نتوقف عندهما كتفاصيل موثقة أخرى في سياق الاستهانة بالقيم الإنسانية، التي أقرتها كل الشرائع الأرضية، فضلاً عن شعورنا كمواطنين سوريين بأننا صرنا مستباحين، ومكسر عصا، لكل السياسات الدولية التي ترتكب الجرائم بحقنا الإنساني في العيش بحرية وكرامة.

ولكن من يرى ما نراه؟ ومن يتقصى الأمر مثلنا؟

خلال الأيام التي تلت مجزرة القورية، كان من الواضح للمتابعين الذين يستقون أخبارهم من الوسائل الإعلامية العالمية أن ثمة صمت مريب يلفها حيال ما جرى هناك، هو امتداد للصمت المستمر حيال الجرائم المرتكبة بحق المدنيين منذ بداية الثورة السورية عموماً، ومنذ أن بدأ التحالف الدولي حملته ضد (داعش) على وجه الخصوص. وبمراجعة بسيطة لكل ما حدث خلال عامين تقريباً نرى كيف تسكت الميديا عن الضحايا المدنيين الذين يسقطون بفعل الغارات الجوية التي يجري إغفال تحديد مسؤوليتها، فهي مبهمة الانتماء في أغلب الأحيان، وبما يوحي بوجود تقاسم في المهام بين طائرات النظام والتحالف والطيران الروسي، الذي دخل الفضاء السوري بعنف أعلى، من أجل أن يوصل للعالم رسالة تقول بأنه سيفعل ما لم يستطع التحالف أن يقوم به طيلة الفترة السابقة.

السكوت عن المذابح التي ارتكبت على يد طيران الجهات الثلاث، أو المرور عليها مرور الكرام، على المستوى الإعلامي، لم يكن ليحدث بهذا الشكل الفاقع في تجاهله للقيم الإنسانية، لولا وجود الذريعة التي تقول بأن هذه المناطق يسيطر عليها تنظيم (الدولة) داعش، والتي تمنح كتبة الأخبار ومحرريها نوعاً من الثقة بأن القارئ لن يتوقف عندها طالما أن العدو الإرهابي يتواجد في الأنحاء، وهكذا سيصر محرر الأخبار في موقع (BBCعربي) في خبره عن مجزرة القورية على أن يورد رأياً لمحرر الشؤون العربية في الشبكة سباستيان آشر يقول فيه إن البلدة يعتقد أنها تخضع لسيطرة ما يسمي بتنظيم "الدولة الإسلامية". فهذه الشهادة ستمنحه الثقة بأن الأمور تجري تحريرياً على أكمل وجه، طالما أن الهدف المضمر (بحسب ايحاءات الخبر ذاته) هو ألا يتوقف القارئ عند القضية، وأن يمر الأمر كتفصيل صغير، يجدر بالجمهور ألا يهتم به، فالقتلى هنا لم يقتلهم الطيران الروسي، بل قتلهم وجودهم في المنطقة التي يسيطر عليها عدو العالم حالياً اي تنظيم داعش..!!

وفي الوقت نفسه حاز خبر إعدام الناشطين الإعلاميين الخمسة على اهتمام إعلامي أكبر، فهذا هو المجال الذي تحبه الصحافة الغربية ومعها العربية، انتهاكات "المتطرفين" في سوريا، وحين تكون الجريمة "داعشية" فإن حبر الأقلام يسيل، ويتغذى من الفخ الذي طالما نصبه التنظيم للميديا العالمية، والذي يتحدد بجرها دائماً إلى إعادة إنتاج رسائله الإعلامية وتكرار بثها، بما يجعل من خطابه العنفي الهائل حاضراً، ليخدم في المحصلة السياسات الغربية التي انكفأت عن علاج أساس المشكلة السورية وهو وجود نظام مستبد يقتل شعبه، لتهتم بواحدة من نتائجها (التطرف) ولتكرس كل جهدها العسكري والإعلامي ضدها، حتى وإن طُحن المدنيون وباتوا أشلاء تحت ركام البيوت التي يقصفها الطيران.

قضية الشهداء الإعلاميين الخمسة لم تكن جديدة، فبحسب مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن الذي اتُهم هؤلاء بتزويده بالأخبار فإن عملية الإعدام جرت في وقت سابق وأن الفيديو لم ينشر إلا الآن " لأن التنظيم، الذي بدأ يفقد بعض نفوذه في سوريا، يريد أن يرسل رسالة إنه ما زال قويا". ولكن حضور الحدث الخاص بهم طغى على صور مذبحة القورية، التي كان يفترض بالوسائل الإعلامية السورية أن تعطيها المساحة اللازمة بوصفها جريمة ضد الإنسانية، تم ارتكابها على يد الطيران الروسي، الذي يجد حالياً الكثير من الصحفيين السوريين والعرب والغربيين ممن يدافعون عن جرائمه، بحجة استهدافه لـ"المتطرفين"، وبالمحصلة، غابت وجوه الضحايا المدنيين الذين قتلوا في القورية عن الشاشات، كما ستغيب وجوه الناشطين الخمسة بعد أن يتم استهلاك خبرهم، وليصبح ما حدث ويحدث في دير الزور والرقة وفي كل المناطق السورية، مجرد تفاصيل، تمر في السياق وتذهب نحو سلة المهملات طالما أن الجثث التي تعبر المشهد هي سورية تنتمي لشعب يتكالب الجميع على قتله، ويتحضرون للاستثمار في دمه.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات