أخفى حافظ الأسد عن شعبه الكثير من الأمور التي تتعلق بمصير الدولة، فلم يعرف السوريون صفقات (البيع والشراء) السرية التي أضاعت الجولان وحرمت سورية منها، ولم يعرفوا عن الاتفاقيات السرية مع الإسرائيليين التي دفعتهم الآن للدفاع عن ابنه، ولا عن اتفاقية (أضنة) السرّية مع الأتراك التي غيّرت ملامح الحدود بين البلدين وضيّعت لواء اسكندرون، ولا عن الاتفاقية التي جرت على هامش (عاصفة الصحراء) مع الأمريكيين والتي ساهمت بترسيخ حكمه، ولا عن الاتفاقيات السرية مع إيران التي أدخل بموجبها هذا الطاعون ليبتلع سورية، ولا عن عشرات الاتفاقيات السرّية التي لا يعرف أحد من السوريين تفاصيلها حتى الآن.
بما أن (فرخ البط عوّام)، اتّبع بشار الأسد نفس السياسة، وتعامل بسرّية مع كل القضايا الهامة المتعلقة بمصير الوطن، فأخفى عن السوريين استسلامه لنظام ولي الفقيه، وأخفى ما كان يُدبّره مع حزب الله في لبنان، كما أخفى علاقاته السرّية مع الحوثيين والصدريين، ومشاوراته عبر أخيه مع الإسرائيليين، كما أخفى عنهم اتفاقية الاحتلال والوصاية التي وقّعها مع الروس والتي أدّت لتدخّلهم العسكري المباشر، وغيرها الكثير.
يُخشى أن تكون السرّية والباطنية قدر مكتوب على السوريين، وأن تكون سياسة النظام التي تعتمد على إخفاء كل شيء عن الشعب هي مرض وراثي، وأن تنتقل من النظام الشمولي إلى المعارضة، تماماً كما انتقلت من الحاكم المستبد لابنه.
قبل نهاية السنة الأولى من الثورة، تبلورت هياكل وتكتلات لقوى المعارضة السورية، سرعان ما انقسمت إلى داخلية وخارجية، ورفضت (بل وخوّنت) بعضها، ونشبت صراعات وتزاحمات تمثيلية، ثم خلافات وانقسامات داخلية، وانسحابات وانشقاقات، وتهميش وتغيير في التسميات والبنى، هذا دون أن نتحدث عن المكابرة والفساد والمحسوبيات والمصالح و(الولدنة) ورفض النقد الذاتي ومرض الأبدية، وبالمحصلة قفز قياديون من التكتلات المترنحة ليتصدروا الجديدة، فحصل السوريون على تكتلات معارضة متعددة ومتغيرة لكن الوجوه ظلّت واحدة.
حين أُعلن عن تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، اعتقد أصحاب الثورة أن هذه الأمراض ستجد نهاية لها، لكن سرعان ما تعرّض الأداء لانتقاد، وطغى التخبط الإعلامي، والتزاحم على المنابر، والشكليات على المضمون، وبدأت الهيئة تُمارس السرية وحجب المعلومات، وتصرف البعض كمسؤولين دوليين مهمين متناسين أنهم مجرد ممثلين لشعب مسكين مُشرّد بائس.
منذ بداية مشاركتها في المفاوضات لم يعد يعرف أصحاب الثورة ما يدور في القاعات المغلقة ووراء الكواليس، فلا محاضر اجتماعات الهيئة بالمبعوث الأممي نُشرت، ولا عُرف ما دار في عشرات اللقاءات مع المسؤولين الأوربيين والعرب، ولا فهم السوريون أسباب الزيارات المكوكية لقادة هذه الهيئة للكثير من الدول ولا ما جرى خلالها ولا نتائجها، ولم يكشفوا ما قاله لهم الأمريكيون وغيرهم، ولم يتحدثوا عن الضغوط التي تعرّضوا لها، وأخفت الهيئة أسباب تفككها والاستقالات التي شهدتها، ولم تُطلع أصحاب الثورة الأصليين على الأجوبة التي حضّرتها ردّاً على أسئلة المبعوث الأممي ولم تستشرهم، ولم يعرف السوريون حتى اللحظة تفاصيل المرحلة الانتقالية التي تريدها هذه الهيئة ولا شكل الدولة والسلطة والحكم الذي تسعى إليه.
لاشك أن العمل السياسي يقتضي الحنكة والمهارة، والقدرة على التأقلم مع الظروف والأحداث، والمناورة مع الخصم، وربما بعض الحيلة والقدرة على إخفاء المعلومة عنه، لكن كل هذا لا يُبرر إخفاء الحقائق عن أصحابها، وعدم اطلاعهم على كل المسارات والتفاصيل والحقائق، أو جرّهم إلى ما لا يعرفونه، أو ربما لا يريدونه.
من الخطأ اتّباع المعارضة السورية لنفس أساليب واستراتيجيات النظام، كالسرّية والباطنية والاستئثار والتكبّر، ومن الخطأ أن تعتقد هذه المعارضة أن أصحاب الثورة سمحوا لها أن تتحدث باسمهم لأنها الأفضل أو الأقوى أو لأنها صاحبة كرامات، وعليها دائماً أن تتذكر أنها لم تكتسب ـ حتى اللحظة ـ إلا شرعية جزئية مؤقّتة مشروطة ومرحلية، سرعان ما ستزول لتكشف أسرارهم التي يخفون.
التعليقات (4)