ما لنا في منبج حتى ندافع عنها

ما لنا في منبج حتى ندافع عنها
"نسينا تلفت القلب..وتركنا فيك خير ما فينا..تركنا فيك شهدائنا الذين نوصيكم بهم خيرا" هكذا بكى يوما محمود درويش عندما تذكر من تركهم في فلسطين، فماذا تركنا في ديارنا نحن لنبكي عليه أو لنقاتل لأجله، فعلا تركنا الكثير وعلينا البكاء كثيرا، على هذه الديار المستباحاة للقتل يعتريها من كل جانب وبيد كل طارق، لا قيمة لها إلا فينا أو في بعضنا، ولا قيمة لها كلها عند كلنا، ولبعضها قيمة عند بعضنا، لكن في سوريا أجزاء لم تعد تعني أحداً، وكأنها غادرت فعلا تلك الخارطة لأخرى، وغادرت القلوب والعقول، أو أن القهر فاض فلم تعد تتسع له الصدور، منبج تلك الحكاية الشامية القديمة على ألسنة الشعراء من أبنائها هي لمن ومع من ومن يقتلها ولصالح من وماذا لو دافعنا عنها ،ولماذا لا ندافع عنها ومن منا سيدافع عنها؟

أسئلة كبرى في زمن حقير أحال مدينة البحتري لمجرد مكان غير معرف سوى بأنه أخيرا دخل دائرة الدم، بعد أن قررت الولايات المتحدة بناء مجد تدمير "الدولة الإسلامية" من خلال تدمير منبج، وذلك بالتسهيل للغزاة الجدد الذين يقدَمون على أنهم فاتحون، لا بل أعدت لهم خطط عسكرية وجيّر لهم غطاء جوي يحرث الأرض أمامهم ويقضي على احتمالات المواجهة، ولهذا الدعم الجوي مهمة أخرى هي قتل المدنيين من نساء وأطفال وشيب وشباب، وبالمئات في قلب المدينة وهؤلاء جميعا هم بالحسابات الدولية أكثر من مجرد حاضنة شعبية للإرهاب هم نفسهم متهمون بأنهم عناصر تنظيم الدولة، في مشهد جديد من مشاهد التصفية التي يمارسها التحالف المزعوم ضد كل سكان سوريا بحجة قتال التنظيم، وفصل أخر من فصول التطهير العرقي ضد العرب السنّة، وهذه المرة غرب الفرات وليس في شرقه المقدس، تطهير عرقي لصالح أقلية من أكراد سوريا هم من يقاتلون تحت لواء وحدات الحماية التي تشكل العمود الفقري للقوات المعروفة بـ"قوات سوريا الديمقراطية".

منبج هذه الأيام تعيش على وقع المأساة التي تلحق بأهلها دون ذنب، هم الذين تحرروا منذ أعوام من سيطرة نظام الأسد وأقاموا حكما اجتماعيا محليا، كان صامدا بحكم بعض بقايا الروابط العشائرية والقبلية وبحكم التجانس بين السكان الذين حمتهم الجغرافيا قليلا، وقست عليهم بعد أن أصبحت مدينتهم وجهة تنظيم الدولة الذي كان يمر وقتها في أوج مراحل التمدد فاستغلال فرصة الاستقرار النسبي وعدم وجود تلك القوة العسكرية الكبيرة التي تدافع عن المدينة (إذ أنها لم تكن لمدة طويلة عرضة للهجمات)، وأصبحت منبج إحدى حاضرات التنظيم مستقرة، ماعدا بعض الهجمات الجوية المتباعدة زمنية من النظام إلى أن قررت الولايات المتحدة وتحالفها الحرب على التنظيم وبدأت تطالها هجمات جوية أكثر كثافة، نقطة التحول كانت عندما نزلت على الأرض السورية قوات أميركية رفع عناصرها على أذرعهم شعارات الوحدات الكردية ليروج وقتها أن معركة الرقة فتحت، ليعاود هؤلاء وينقلون معركتهم إلى منبج ويساعدوا الوحدات الكردية في عبور الفرات والتوجه إلى منبج لتصبح المدينة المحتلة أصلا من قبل تنظيم الدولة عرضة للهجوم الذي يروج له بعض الأطراف بأنه لتحريرها وهؤلاء جميعا جزء من الإرهاب الذي يضربها.

مشكلتي مع الوضع في منبج هي ذاتها مع الوضع في الرقة ودير الزو فهل نسينا جميعا هذه المدن، وسلمت فعلا من قلوبنا وعقولنا إلى تنظيم الدولة، لتصبح وجهة مشروعة لكل الهجمات التي تقتل أهلها، نحن الأن نمشي على حد سكين من الريبة وخشية الاتهام بأن أي دعم ولو بالكلمة لأهالي منبج هو دعم لـ"دواعش" وفي هذه الورطة الأخلاقية التي وضعنا العالم بها علينا إيجاد مخرج ونتصالح مع أنفسنا أولا ونعيد تعريف هذه المدن المنكوبة باحتلال التنظيم تعريفا ضمن قائمة مدننا، فهي مازالت سورية ثائرة وما التنظيم إلى ظرف زماني عابر، وعليه لابد من التفريق بين من ينتمي إلى التنظيم ومن هو ضحيته وضحية الحرب عليه، أطفالنا في منبج وعوائلهم المنكوبة هم همنا الوحيد ولابد من الاعتراف بالتقصير تجاههم ولابد من أن نكون أشجع عندما ندافع عن أهلنا، خاصة ونحن ندرك أنه ليس في سوريا مدينة ثارت لأجل أن تسلم مفاتيحها للتنظيم بل كانت ثائرة ضد الأسد وهذا تأصيل الحكاية، وهذا مشترك جامع للجميع وهو ما يجب أن يضغط علينا لنكون وحدة واحدة في تعرية كل من يحاول تشويه منبج أو الرقة أو دير الزور أو الباب أو جرابلس ووسم هذه المدن بالدعشنة وبهذا لابد من أن يكون الأمر واضحا للأكراد المقاتلين مع الوحدات الحماية بأن كل مكاسبهم اليوم أنية ومغطاة بأعتى الطائرات وما أن تغادر السماء سيخسرون المكاسب السريعة، وهذا ليس تمجيدا بقوة التنظيم بل لأنهم يدركون أن غايتهم في القتال في هذه الأرض ليست محقة وما دليلي على ذلك إلا التهجير الذي طال أكراد أخرين كانوا ومازالوا ضد ممارسات الوحدات التي لا تعبر عنهم.

منبج اليوم هي تعبير عن نية المجتمع الدولي المضي في استنزاف ثورتنا وهذه المرة من خلال وضعنا أما خيار الصمت أو اتهام أهلها بالدعشنة وبأحسن الأحوال الإدانة  الباهتة، بينما يدرك التحالف الدولي أن ما يفعله من أجل تقدم الوحدات الكردية لن يحقق لأي من الأطراف خيرا بل هو سيجلب الدمار وسفك الدماء فقط إن كان الآن أو غدا ومهما كانت نتائج هذه الحملة، وعلينا أن نعي بأن تفريغ شحنات الغضب الناتجة عن عجر أوروبا عن حماية نفسها من "الإرهاب" تفريغها في بلادنا ليس حالة عرضية بل هي نتيجة تعاطينا كمجتمعات منهكة مع مثل حالة مدينة منبج إذ تبلد الشعور تجاه كل المدن التي يحتلها التنظيم بعد كبر ثأرنا معه، وفي هذه يمكن القول بأن أي ثأر مع التنظيم أو عداوة لن تجعنا نقبل بأن تباد وتحرق مدننا التي احتلها لأن لنا فيها الكثير وتركنا فيها خير ما فينا..تركنا فيها شهدائنا وبعض ثورتنا وثوارنا.

التعليقات (1)

    طارق السيد أحمد

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    صحيح تماما للأسف
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات