لماذا يفضّل عسكر أمريكا انتخاب ترامب؟

لماذا يفضّل عسكر أمريكا انتخاب ترامب؟
أجرت صحيفة Military Times الأمريكية، المختصة بالشؤون العسكرية، استطلاعاً لرأي شريحة من 951 عسكرياً أمريكياً عاملاً؛ حول المرشح المفضل في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة: هيلاري كلنتون، أم دونالد ترامب. وإذْ تعترف الصحيفة بأنّ الاستطلاع لا يتّبع القواعد العلمية المعتادة في استطلاعات رأي كهذه، إلا أنّ منهجيته ـ في اعتماد مبادىء السرّية، والتطوّع، والتمثيل النسبي، والتفريق بين آراء النساء والرجال والجمهوريين والديمقراطيين، وصنوف الأسلحة والقوات، وما إلى ذلك ـ تجعل نتائجه مقبولة بصفة عامة.

النتيجة الأولى هي أنّ ترامب (الذي بات المرشح الرسمي للحزب الجمهوري) تفوّق على كلنتون (مرشحة الحزب الديمقراطي المحتملة، أو شبه المؤكدة) بنسبة الضعف تقريباً: 54، مقابل 25٪، ونسبة 21٪ يعتزمون الامتناع عن التصويت. في صفوف النساء، حظيت كلنتون بنسبة عالية (51 مقابل 24٪)؛ وساد ترامب في صفوف الرجال (57 مقابل 22٪). في سلاح الـ"مارينز"، حصد ترامب نسبة 60، مقابل 18؛ وفي القوى الجوية، 54 مقابل 25… وفي نتائج هامشية، خارج هذه الخيارات المحددة، توفّرت شرائح تعتزم التصويت لمرشح ثالث خارج ترشيح الحزبين، أو الحسرة على عدم وجود مرشح جيد بين جميع المرشحين، أو الإقرار بأنّ ترامب يتساوى مع كلنتون في الجهل بالشؤون العسكرية، أو اعتبار معركة الانتخابات الرئاسية خاسرة في كل حال!

هذا في استطلاع رأي سرّي، خاصّ، لصالح جهة صحافية؛ وأما في المستوى العلني، فإنّ عسكر أمريكا ينقسمون إلى فئتين: العاملون، القائمون على رأس عملهم (وهؤلاء يتحفظون، بحكم العرف أو القانون عن إبداء الرأي أو التدخل في السياسة إجمالاً)؛ وفئة المتقاعدين (وهؤلاء لا يترددون في إطلاق التصريحات، بالطبع، بكل حرّية). وهكذا، يمكن أن نعثر على مايكل فلين، الرئيس السابق لاستخبارات الدفاع في إدارة باراك أوباما، الذي لا يناصر ترامب فقط، بل يعمل لديه مستشاراً عسكرياً وأمنياً، ويؤيد مقترحه حول حظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة. في المقابل يرى باري ماكافري، الجنرال الذي تقاعد وعلى كتفه أربع نجوم وكان قائداً لجيش المشاة، أنّ «ترامب سيكون كارثة في موقع القائد الأعلى للقوات المسلحة، فهو محدود المعرفة، متقلّب، فقير الحجة، وخفيف الرأي. من الصعب على المرء أن يصدّق أنّ هذا هو مرشح حزب سياسي رئيسي".

ولعل من الخير للمرء أن يذهب إلى جنرال، متقاعد بالضرورة، ولكنه انخرط في السياسة بتكليف رئاسي، وكانت له «مآثر" خاصة تبرّر اقتباس آرائه في هذا السياق تحديداً، أي شعبية ترامب لدى عسكر أمريكا. أنتوني زيني (القائد الأسبق للقوّات الأمريكية في الخليج وجنوب آسيا، والرئيس الأسبق للقيادة العسكرية المركزية، ومبعوث الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في الشرق الأوسط…)، اعتبر أنّ ترامب يصلح ممثلاً كوميدياً أكثر من قائد أعلى لجيش القوّة الكونية الأعظم؛ ولكنه، في المقابل، خطّأ أوباما لأنه، في أوّل نقد علني بحقّ ترامب، اختار أن يكون إلى جانبه عسكري أمريكي عامل، وغير عادي من حيث الرتبة والمنصب، هو الجنرال جوزيف دنفورد رئيس هيئة الأركان المشتركة. «هنالك قلق لدى العسكر بصدد ترامب، ولكنهم في الحقيقة يريدون التغيير. هنالك الكثير من الضيق حول محنة العسكر الحالية، من حيث التمويل وطريقة إدارة الحروب"، يرى زيني؛ معتبراً أنّ كلنتون لا تبدو جديرة بإجراء مثل هذه التغييرات الشاملة في القوات المسلحة الأمريكية.

وهكذا، إذا سلّم المرء بحقيقة، سوسيولوجية ونفسية، مفادها أنّ الناخب الأمريكي يحبّ أن يعرف رأي العسكر في مَنْ سيكون القائد الأعلى للقوات المسلحة، أيّ سيد البيت الأبيض؛ فإنّ السؤال التلقائي اللاحق هو التالي: فما الذي يجذب العسكر إلى ترامب أكثر من كلنتون، إذن؟ ثمة التفسير السابق الذي اقترحه الجنرال المتقاعد زيني (الذي لم تندثر تماماً عواطفه تجاه الحزب الجمهوري)، الذي يمكن بالفعل أن يشكل عتبة لفهم تفسير لاحق، ذي صلة؛ أي شعار ترامب المركزي، حتى الساعة، حول القوات المسلحة الأمريكية: «سوف نجعل جيشنا ضخماً جداً، قوياً جداً، عظيماً جداً، جباراً جداً، بحيث لن نكون بحاجة أبداً إلى استخدامه. سوف يكون عندنا رئيس يحترمه بوتين، وتحترمه إيران". وفي تصريحات أكثر وضوحاً (أي: أشدّ ديماغوجية!) قال ترامب: «أتعرفون ما أجيده أكثر من أيّ أمر آخر؟ إنه الجيش! ولسوف أكون الأكثر تشدداً في بناء قواتنا المسلحة"

كأنّ الجيش الأمريكي ليس، اليوم تحديداً، الأضخم والأقوى والأعظم! أو كأنّ الإنفاق عليه (596 مليار دولار) لا يفوق إنفاق سبع دول مجتمعة (الصين، السعودية، روسيا، المملكة المتحدة، الهند، فرنسا، اليابان: 567 مليار دولار)! وفي المقابل، ألا يحفل تاريخ ترامب الشخصي بكلّ ما هو نقيض ادعاءاته حول العسكر: التهرّب من الخدمة في فييتنام عبر ذرائع دراسية أو طبية، ومنع متقاعدي الجيش من العمل طباعة متجولين قرب أبراجه التجارية، ثمّ احتقار جون ماكين لأنه وقع في الأسر…؟ ألم يسخر من ضباط الجيش والأمن، معاً، حين أعلن أنه يعرف عن «داعش" أكثر بكثير مما يعرف الجنرالات؟

إلى هذا، ثمة طرافة في المقارنة بين ثلاثة خطابات أمريكية، متباعدة في الزمان ومتقاربة في المحتوى: الرئيس الأمريكي الأسبق لندون ب. جونسون، حول تبرير المغامرة العسكرية الأمريكية في فييتنام؛ والرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، حول غزو العراق؛ والمرشح الجمهوري ترامب، حول مستقبل أمريكا العسكري. ففي خطبة ألقاها سنة 1967، قال جونسون: «لقد اخترنا أن نخوض حرباً محدودة في فييتنام لنتفادى حرباً أكبر، حرباً كنّا سنخوضها حتماً في قناعتي إذا نجح الشيوعيون في اجتياح فييتنام الجنوبية والسيطرة عليها عن طريق العدوان والقوّة. وأنني مؤمن، ويشاطرني الكثيرون هذا الإيمان، أنهم إذا لم يُردعوا الآن فإنّ من المتوقع للعالم أن يدفع ثمناً أبهظ لردعهم لاحقاً. ونحن نعلم أنّ هذه الأمّة ما كانت ستنشأ وتترعرع وتحافظ على نجاتها ورفاهها دون مخاطر كبرى وتضحيات الكثير من أبنائها الكبار".

وهنا فقرة ممّا قاله بوش في معرض شرح ستراتيجيته، حول مخاطر عدم التدخل العسكري في العراق: «سيعزز الإسلاميون المتطرفون قوّتهم ويحصلون على متطوعين جدد. سيكونون في موقع أفضل لإسقاط الحكومات المعتدلة، ونشر الفوضى في المنطقة، واستخدام عائدات النفط لتمويل طموحاتهم. ستتشجع إيران في مواصلة عملها لامتلاك سلاح نووي. سيحصل أعداؤنا على ملاذ آمن يخططون ويشنّون منه هجمات على الشعب الأمريكي. في 11 ايلول (سبتمبر) 2001 رأينا ما الذي يمكن أن يجلب ملجأ للمتطرفين في الجانب الآخر من العالم إلى شوارع مدننا. من أجل سلامة شعبنا يجب أن تنجح أمريكا في العراق".

المثير أنّ كلنتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، ليست أقلّ من ترامب نزوعاً إلى الحرب والإنفاق العسكري والتدخل الخارجي؛ وبالتالي كان منتظَراً من العسكر أن يتقاربوا في الحيرة بين المرشحين، إذا لم يتوقع المرء ميلهم إلى سيدة خبرت الحياة السياسية والأمنية والعسكرية أكثر بكثير من خصمها. هنالك، استطراداً، ذلك الترجيح المسكوت عنه ربما، والذي يشير إلى أنّ خصال ترامب الأخرى (العنصرية، الانعزال، دغدغة مشاعر الخوف، تضخيم المخاطر الأمنية، مغازلة العرق الأبيض، وتنمية الرهاب ضد الإسلام…) هي التي ترجّح الكفة.

وفي هذا يستوي العسكري مع المدني، والرجل مع المرأة، والفتى مع الشيخ!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات