مصيبة مضاعفة

مصيبة مضاعفة
خلال العقود الخمسة الماضية، تعامل النظام السوري مع أصحاب الكلمة بالكثير من القسوة، سواء أكانوا سياسيين معارضين أم مفكرين أم كتّاب أم إعلاميين، بل وحتى لو كانوا من كُتّاب صُحف الحائط المدرسية، فراقب كل كلمة يقولونها أو يكتبونها، وبحث في الأدمغة عن كلمات خبأها أصحابها ليعاقبهم استباقياً على شيء قد يتفوهون به لاحقاً، وعدّ أنفاسهم وكتمها أحياناً، وعاقبهم بأحكام استثنائية أقسى بدرجات من نصوص القانون، واستدعتهم الأجهزة الأمنية لمحاسبتهم على (حرف) زائد في كتاباتهم أو تصريحاتهم، وزجّت الكثير منهم في السجون وأخفت البعض.

سلّط النظام السوري الأجهزة الأمنية (الأمّية) على أصحاب الكلمة في سورية، فاستدعتهم للتحقيق (كلما دق الكوز بالجرة)، وأهانتهم في أفرعها، وحقق معهم جهلتها، ومنعوهم من الكتابة بوسائل إعلام (الدولة السورية)، تلك الوسائل التي استخدمتها عند الضرورة للتشهير بهم.

حاسب النظام السوري على الكلمة، وتعامل مع أصحابها كمجرمين حتى يثبت العكس، والعكس هو الولاء المُطلق أو الصمت المُطبِق، أم الانصياع لأوامر أجهزة أمنية شبه جاهلة، فكان (هؤلاء المساكين) من الحلقات الضعيفة في المجتمع، ذلك أنه حتى بعض شرائح المجتمع نبذتها لأنها تجرأت وارتكبت (جريمة) الكلام.

خلال سنوات الثورة، وعلى هامش حربه العسكرية التخريبية المُدمّرة، حشد النظام منظومة مُتكاملة من (الشبيحة الإلكترونيين) الذين حرّضوا طائفياً ومناطقياً وبثوا الكراهية والحقد بين السوريين، وكانت لهم مهمة أخرى أساسية هي رصد أصحاب الكلمة على اختلاف فكرهم وتوجهاتهم، فتصيّدوا أخطائهم بهدف إهانتهم واتهامهم بالخيانة والعمالة، وهددوهم وتوعدوهم وحرّضوا عليهم، دون رادع أخلاقي أو قِيَمي، فبقي (هؤلاء المساكين) من الحلقات الضعيفة، فلم يكن لديهم من يُساندهم ولا من يُعاقب من يُحرّض عليهم.

جاءت الثورة، وأراد السوريون أن تكون بداية لحرية افتقدوها وحقٌ في التعبير والكلام والانتقاد غاب عنهم، واعتقد أصحاب الكلمة أن تلك الحرية والحقوق باتت قاب قوسين أو أدنى، فوقفوا متسلحين بكلمتهم في وجه الجلاد، نصرة للسوري المقموع المُدمّر، ولسورية الوطن الجريح، وللحق الذي لا يُعلى عليه، لكنهم تفاجئوا بأن عدد أعدائهم قد تضاعف، ولم تنطبق حسابات الحقل على حسابات البيدر.

فضح هؤلاء انتهاكات وسياسات النظام، وكشفوا علاقاته المبنية على الطائفية والفساد والمصالح والإجرام، وشككوا بوطنيته وسوريته بل وإنسانيته، ثم تحدّثوا عن المعارضة السورية، بـ (عجرها وبجرها)، مجلسها وهيئتها الأولى (التنسيق) وائتلافها وهيئتها الثانية (المفاوضات)، عربها وأكرادها وآشورييها، مسلميها ومسيحييها، سياسييها وعسكرها، مدحوا وهللوا للسديد وانتقدوا المُخطئ، ونبّهوا من تُجّار الثورة ومرتزقتها، وازدروا من صعد على ظهرها، ما تسبب بمضاعفة أعدائهم، ليصبحوا أهدافاً للطرفين، نظاماً ومعارضة، وعرفوا أنهم خرجوا من تحت (دلف النظام) إلى (مزراب المعارضة).

عند انتقادهم، وكشفهم لتناقضاتها وصراعاتها ورعونتها، يتحول مسؤولو الهيئة (الأولى) إلى نسخة طبق الأصل عن (أبواق) النظام، ضاربين بعرض الحائط الشفافية وحرية التعبير التي يدعون لها بثورتهم، وعند الحديث عن عقمهم وفسادهم وشعبويتهم، يتحول الأصدقاء في (المجلس) لأعداء ينثرون الكلام المسيء يمنة ويسرة دون أن يطرف لهم جفن، وعند الحديث عن (الائتلاف) لعبثيته وتحوّله لجمعية خيرية لقياداته، يخرج الكثيرون ليشككوا بوطنية ورجاحة عقل من تحدّث، ويتكرر الأمر نفسه مع كل كيان سياسي معارض.

عند الحديث عن (موبقات) حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وميليشياته، وهوسه القومي وفيدراليته المتسرعة وممارساته التي يشهد عليها الشهود، يهبّ أنصاره كالعاصفة، يشتمون قبل أن ينتقدوا، ويهددون قبل أن يُحاججوا، ويطالبون بالاعتذار عن انتقاد جرم وفضيحة وشوفينية ارتكبها من يُمثلهم، ويطال التهديد أيضاً الأكراد ممن أيد هذه الانتقادات.

عند انتقاد الآشوريين لتورطهم بالعسكرة، ويُنبّه لخطرها على وجودهم، يقذفون صلبانهم على من انتقد. وعند انتقاد انسياق غالبية العلويين وراء النظام وحجم المنفعة التي حصلوا عليه خلال عقود، يُلقون تهمة اللاسامية في وجه من يتجرأ على (أقليتهم) التي يعتقدون أنها كلمة سحرية للحماية. وعند انتقاد عتاة السنّة ومتشدديها تنطلق من أفواههم حمم جهنم. كذلك تنهمر من السماء أحجار جبل العرب البازلتية على رأس من ينتقد سلبية الدروز تجاه الثورة. وعند انتقاد انتقال ولاء شيعة سورية لإيران تبدأ لطمياتهم، ونفس ردات الفعل متوقعة عند انتقاد الإخوان أو اليساريين أو الناصريين أو غيرهم، والويل الويل لمن يحاول انتقاد بعض الكتائب العسكرية المسلحة المنفلتة، الرديئة الفاشلة، فالبنادق جاهزة لتغيير الاتجاه فوراً.

يقف السوريون أصحاب الكلمة بين نارين، نار النظام الذي لم يرحم، ونار المعارضة التي لن ترحم، ويبقى أمله أن ينهزم استبداد وإجرام النظام، وينهزم العقل الموتور لبعض المعارضة، وأن تنتصر مبادئ الثورة لتضمن لهم كل حقوقهم الأساسية، وعلى رأسها حقهم في الكلام والكتابة والتعبير ومحاسبة من يسيء لهم.

التعليقات (1)

    عواد

    ·منذ 7 سنوات 9 أشهر
    كلام راءع شكرا لك سيدي علئ المقاله
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات