لتدمير الدولة السورية العميقة

لتدمير الدولة السورية العميقة
لم تستطع خمس سنوات من الثورة (والحرب) أن تُغيّر شيئاً في عقلية ونهج وسياسة النظام السوري، ولم يستطع نصف مليون من الضحايا أن يهزّوا شعرة في كيانه ووجدانه، ومازال - كما كان سابقاً - مُتمسّكاً بالسلطة قادراً على تثبيت وجوده حتى لو بات وجوداً مُهلهلاً ومنبوذاً.

الدعم الذي وصل للنظام السوري من إيران وروسيا وبعض التنظيمات المارقة كان له الأكثر الكبير في ثباته، كذلك كان للتركيبة المُعقّدة للجيش والأمن أثراً هاماً أيضاً، حيث صّممت هذه المؤسسات وفقاً لخريطة معقّدة متشابكة تضمن عدم إفلاتها من قبضته.

الدعم الخارجي لم يأت من فراغ، ولا نتيجة تحالف الدولة السورية و(صداقاتها) مع تلك الدول (أو المافيات)، بل نتيجة لتحالفات خلفية نسجتها الدولة العميقة خلال خمسة عقود، والتركيبة المُعقّدة لمؤسسات الحكم التي بنتها بعناية لتضمن من خلالها تحالفاً سلطوياً محلياً وإقليمياً ودولياً لا يمكن تفتيته ببساطة.

لم تنجح محاولات المعارضة السورية طوال خمس سنوات بتفتيت النظام وإسقاطه، لا بالسياسة ولا بالمفاوضات (العبثية) ولا حتى بالمواجهات العسكرية، ولم تُفدها الجامعة العربية ولا الأمم المتحدة ولا "الدول الصديقة"، ذلك لأن التحالفات التي قام بها متعددة ومتراكبة، سياسية واستخباراتية وطائفية ومالية ونفعية وإيديولوجية، وفي الغالب، لن يتفتت النظام ويسقط إلا بتفتيت الدولة العميقة المُتجذرة التي يديرها.

الدولة العميقة بالتعريف هي مجموعة التحالفات النافذة داخل النظام السياسي، وتتكون من عناصر متعددة منها أجهزة المخابرات والقوات المسلحة والقضاء والمافيا، تكون بمثابة دولة داخل الدولة، مصالحها فوق كل مصلحة، ووسائل تنفيذ سياساتها متنوعة، وهي في الواقع مجموعة من الأشخاص، مُمثِّلين لأشخاص، يعملون من وراء الكواليس ويديرون الدولة.

في سورية دولة عميقة متجذرة خطيرة، قوية جداً وهشّة جداً في نفس الوقت، تستند إلى مُكوّنين اثنين، الأجهزة الأمنية والطائفة في آن، وتتضمن الأجندة السياسية لها التحكم بمصير كل شيء ضمن حدود الدولة، وتستخدم العنف والترهيب والقمع والتخويف والقتل وسيلتها، ولا تهتم بمبدأ سماوي أو قانوني أو إنساني.

أسس الأسد الأب دولة استبداد شمولية غير عصرية، طيّف فيها الجيش من خلال عملية تغيير واسعة لقياداته، وبنى أجهزة أمنية عنيفة وطائفية، وطعّم الدائرة المحيطة به بمنتفعين وانتهازيين جشعين، واشترى الولاءات ونشر الفوضى، وجعل ركيزة دولته العميقة بضع رجال أمن (الحرس القديم) ومعهم رجال قادرون على تجييش الطائفة، التي دجّنها بالترغيب والترهيب، وتحكمت دولته العميقة الخفية بالتعليم والإعلام والدين والاقتصاد والبيئة والمجتمع، ومارست موبقات جرمية، تبدأ بنهب الثروات، والإسهام بتخلف البلد، ومحاصرته فكرياً وإيديولوجياً، وتدمير بنيته المجتمعية، وتعميم ثقافة الخوف والانتهازية، وصولاً إلى القمع والتعذيب والمحاصرة والقتل.

جاء الأسد الابن ليستلم الدولة العميقة التي خلّفها له والده، وكانت أساساً من مجموعة من رجال الأمن والاستخبارات الذين ترتعد المفاصل حين سماع اسمهم، وشخصيات (لا دينية) من الطائفة، لكنه، ولأسباب متعددة، تخلى تدريجياً عن الرعيل الأول من رجال الأمن والاستخبارات، لصالح رجال (ونساء) من الأسرة تحديداً، كما استبدل رجال الطائفة القادرين على (تجييشها)، برجال - من الطائفة أيضاً - قادرين على (تهويجها)، واستمرت الدولة العميقة لكن بأعمدة جديدة، أسرة لا ترى أبعد من مصالحها، ورجال من الطائفة لا يشق لرعونتهم وهمجتيهم غبار.

تحكم سورية الآن دولة عميقة متجذّرة، أسرة حاكمة ومعها ثلّة من الرجال الطائفيين، هيمنوا على مصير الشعب والدولة، يتعذر خلعها بسهولة، لكن هذا الخلع هو واجب يلامس حدود الواجب المُقدّس، وما لم يتكاتف كل السوريين لمواجهة هذه الدولة العميقة فإن الحديث عن أي حلول، سياسية أو نصف سياسية، عسكرية أو حربية، تفاوضية أو تساومية، كله حديث ونهج عبثي لا طائل ولا نتيجة منه.

على المعارضة السورية، وأنصاف المعارضة والرماديين، وحتى الموالين، أن يعوا حجم الكارثة التي تنتظر سورية ما لم يُسقطوا الدولة الأُسريّة الطائفية العميقة، التي لن تتردد في نشر الدمار في كل مدينة، والموت في كل حي، والفوضى في كل بيت، وستقود سورية إلى الفناء، وسيكتب التاريخ أن حفنة مارقة من (الرجال) أنهت واحدة من أهم حضارات المتوسط.

يتحقق هذا الأمر بوسيلتين، الأولى مستبعدة، وتتلخص بقيام علويين وطنيين بثورة داخلية، تقطع رأس الأفعى، أو أن تُعيد المعارضة السورية حساباتها، وتستعين بكل من يعرف أسرار هذه الدولة العميقة وتركيبتها وخفاياها ونقاط ضعفها، ليبدأ العمل عليها لنخرها تمهيداً لتدميرها، قبل أن تُدمَّر دولة عمرها آلاف السنين.

التعليقات (6)

    الملس عنجريني

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    لقد تكلمت وهولت الكثير من سلطات الأسرة الوحشية على إعتبار أنها عاىْلة الوحش ، ولكن نسيت أن الجيش الحر قد حسم المعركة ووصل إلى دمشق وحدود الساحل وفجأة" روسيا أنجدته .! ولولا روسيا لكان قد إنتهى ( علوية جبانة وفارسية لاتقوى على مجابهة الثوار .

    ابو محمد

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    صح لسانك، لا بد من إقصاء هؤلاء الطائفيين وأنصارهم في الداخل والخارج ليعود لسورية وجهها العربي الإسلامي.

    عادل الشمالي

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    مقال عميق... لكن أين البقية يامحرر؟ الثانية!!!

    عامر

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    وهذا ما يريدهـ المجتمع الدولي باستمرار بمقولة لأبد من رحيل الاسد و لكن لا يقول رحيل نظام الاسد او يقول المحافظة على مؤسسات الاسد و المعني هنا ان تبقى الدولة العميقة الطائفية تحكم مفاصل سوريا فهمي صمام الآمان للصهاينة والغرب الصهيوني الحاقد

    نضال بحبوح

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    انا لست مع الاخوان المسلمين ولكن بفضله قام حافظ الآب بعد سحق مدينة حماة بالدبابات بإرسال بعض المنحات او الإفادات السوريا ال لا علوية الى أوروبا وغيرها وكان هذا العدد الضئيل جداً يعاني من قمع المخابرات العلوية والحزبية في الخارج. فلأب والأبن الأسد أسسا دولة عنيفة مخيفة منذ الصغر كما يعمل حالياً الدكتاتور في كوريا

    kk

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    ولماذا يهتم الغرب أو الشرق لمن مات او قتل طفلا أو شيخا او امرأة فإن القتل والموت الممنهج هو شريعة يقوم ويأمر به من يتحكم بزمام الأمور والقتل عنده كانتقاء وجبة العشاء . المعضلة هي متى علينا فهم ذلك و ننسحب من فكرة بانهم يهتمون او يبالون لأي موت كان طفلا او غيره.. القتل يمارس لإغضاب الله عز وجل وعصيان ارادته بأقصى درجات الفساد الكفر والجحود بما ابدع في الخلق والسباق والمنافسة على هز عرشه فحتى حسد وكره الشيطان ومواليه للإنسان يتمثل بأكثر من ذلك. الماء والهواء ملوث والطعام مهرمن والدواء مغشوش
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات