"من شهادتي في تل بيدر"

"من شهادتي في تل بيدر"
في نهاية صيف العام 2012 انتهيت سنتين فعليتين من الدراسة في كلية العلوم الثالثة في جامعة الفرات بالحسكة قسم الرياضيات التي أصبحت قدري واختارتني هي دون اختارها احبتني دون احبها يوما لكنني أدركت عظمتها الكبيرة فيما بعد ووصلت الى اعجوبتها الخالدة التي عجزت عن وصفها ....

عالمٌ جميل من الخيال هو الاساس في التطور المبني على الفرض .........فادتني كثيراً في تحويل عقلي الى تفكير أكثر ديناميكية ......ونزولاً عند رغبة الوالد العزيز بأن أحاول ان أبدأ مهنة التدريس لعلني أدخل هذا الجو الذي سوف يصبح مستقبلي .... ذهبت إلى مديرية التربية في مدينة الحسكة للبحث عن شواغر ممكنة في مدارس الحسكة الثانوية أو الإعدادية لتدريس مادة الرياضيات ............

في ذلك الحين كان قد مضى عام وبضعة أشهر على بدء الثورة في سوريا كُنت شخصياً لا استطيع تفسيرأي شيء من حولي كُنت مُصاباً بالذهول وفي حالة الصدمة ...... كل الفرضيات والسيناريوهات التي وضعها المحللون بعد الحرب في العراق 2003 حول امكانية نشوء شكل مماثل لما حصل فيها لسوريا لم تصب ابداً  ....... 

لم يكن احد يعتقد انه بهذا الشكل الغريب والغير متوقع سوف يبدأ تدمير سوريا الدولة والمؤسسات والإنسان ..... من الداخل وبالآلة التي بنتها.

مدرية التربية في مدينة الحسكة أو المجمع التربوي نموذج مصغر لعالم من الفساد المخفي يلخص النموذج السوري ....خلال الساعات القليلة التي امضيتها في هذه المدريية أدركت حجم الفساد الهائل المنتشر فيه .....المحسوبيات والإغراءات الجنسية والرشاوي التي كان يتم استخدامها بشكل علني أثرت في كينونتي...... 

تخيلت المستقبل أسوداً بامتياز بوجود هؤلاء أو بوجود مثل هذا الذي رأيت كأن ما يحصل في البلاد شماعة لتبرير كل هذا ..... بالنسبة لي لا أومن بشيء من الدولة المدنية سوى بالمؤسسة التربوية وحدها قادرة على صنع الانسان لكن كانت صدمتي كبيرة أمام رؤية هذا الواقع ....رغم هذا كله قررت الاستمرار.....  

في النهاية قبلت أن أخوض هذه التجربة الجديدة والتدريس في ناحية تل بيد والتي تبعد عن مدينة الحسكة حوالي أربعين كم على طريق الدرباسية حيث تتموضع هذه الناحية على تقاطع الطريق المتجه لدرباسية والطريق الدولي القادم من قامشلو من مفرق عامودا كما يُعرف .... كُنت أعلم أن أجور المواصلات سوف تكلفني أضعاف ما سوف اتلقاه من مرتب لكن رغم ذلك قررت الخروج من محيط الحسكة والانتشار في جوانبها ... لم تكن لدي أي واسطة لأستطيع أن أدرس في أي مدرسة من مدارس الحسكة المدينة لذلك كانت شواغر الريف هي ما تعطى لأمثالي ..

بدأت التدريس في هذه الناحية بعد قرابة الاسبوعين .... أصبحت أتلمس عالم التربية والتلاميذ الذي كان وقتها لا يزال محافظاً على رونقه الجميل .......تل بيدر كانت هادئة وجميلة جداً يتوسطها تل أثري قديم كان الطلاب يروون لي حكاياتهم مع تلتها والآثار التي فيها وبعض القصص المخيفة عن وجود أشباح داخلها تحرس تلك الآثار وتؤذي كل من يحاول أخذها ....هنا اريد الاعتراف بانني قليلاً ما كنت ادرسهم الرياضيات كنت اتحدث لهم عن أمور اخرى عن الحياة والوجود كنا نستمع للموسيقى واجعلهم يغمضون عيونهم ويحلمون بالأشياء الجميلة كنت أسالهم عن طموحهك احلامهم أمنياتهم ... 

لا ادري لماذا كنت افعل هذا لكنني كنت مقتنعاً بما افعله ....كان يتوافد إلى المدرسة خليط من الطلاب الكورد والعرب ومن التات وهم سكان تل بيدرالأصليين ليسوا بعرب ولا بكورد ولكنهم يتحدثون لغة عربية شبيهة باللهجة الماردينية ....مشاعرهم وميولهم كانت تميل للسلطة بشكل واضح ... كان تغييراً بسيطاً بات يطرأ على الجانب الآخر من الطريق الدولي وهي سيطرة وحدات حماية الشعبية على مناطق عامودا والدرباسية والطرق الواصل بينها بين مدينة الحسكة واقامتهم العديد من الحواجز  في بعض القرى

كان الحذر والقلق من هذا الأمر بادياً على سكان تل بيدر والقرى الاخرى كانوا يرون ان هذا الطموح الكوردي بالسيطرة  لن يتوقف عند حدود تلك القرى ... ربما هذا الأمر كان حقيقة لكن ما لم أكن علمه انه تل بيدر التي لا يزال النظام متواجداً فيها أمام تحول تاريخي قريب .......

في الثامن من نوفمر من العام 2012  دخلت كتائب أدعت انها من الجيش الحر الى مدينة سريكانية "رأس العين" حيث اشبكت مع قوات النظام في المدينة وسيطرته على المعبر الحدودي سقط على اثر ذلك العديد من الشهداء من سكان المدينة والجرحى .......وصلت إلى تل بيدر في صباح اليوم التالي كانت حالة من القلق والخوف منتشرة بين المدنيين بشكل كبير وحالة من الاستنفار في الثكنة العسكرية التي تقع بجانب البلدة والتي يتواجد فيها قوات النظام  ... كانت أصوات الانفجارات الكبيرة يصل صداها الى تل بيدر والتي بدأ الخوف يدخل الى قلوب اهلها شيئاً فشيء

لم أكن ادري وقتها ان المناطق الكوردي امام الأمتحان الصعب في تاريخها السياسية والحضاري المعاصر تاريخ سوف يقلب شكل كل شيء متواجد فيها سوف يغبر الأعراف والتفاليد والمجتمع وتكويناته الصغيرة حتى التفاصيل الصغيرة .... قبل اندلاع الاشتباك بين وحدات حماية الشعب والجيش الحر في سري كانية ادعت هذه الكتائب بأنها اتت لفك الحصار عن دير الزور ... لا استطيع الانكار بان عاطفتنا اللعينة وضعتنا في موقف محرج للغاية ..

بعد أيام قليلة انسحبت الثكنة العسكرية التي كانت متواجدة في تل بيدر وبالتحديد في الجهة الشمالية منها لتضع وحدات الحماية الشعبية يدها على أماكن تواجدهم انسحبت القطعة العسكرية آخذة معها كل ذخيرتها وسلاحها باستثناء بعض الأغراض التي لم تكن تحتاج اليها ....توافد سكان القرى واهل تل بيدر لاخذ ما تبقى من تلك الاغراض الا ان عناصر الوحدات انهالت عليهم بالضرب ومنعتهم من ذلك كما منعتهم من سرقة مركز الحبوب الضخم للغاية الذي كان يتواجد في تل بيدر ...

قال لي مدير المدرسة وهو الوجه الثقافي المشرق في المنطقة واعلى سلطة ثقافية وتروبية قد تتواجد فيها  وبكل وضوح " لو ان الناس وأهل القرية والقرى المجاورة اخذو هذه الصوامع وما تحويها من أقماح وخيرات وأغراض الثكنة لكان خيراً من ان تتسلمه هذه القوات ... قالها دون أن يراعي أي جانب من الجوانب المنطقية في كلامه .... لكنني كُنت أقدر شعوره فدولة البعث التي بنيت من سد الفرات إلى دجلة أصبحت تنهار أمام عينيه وهو لا يزال متأملاً ....حاولت أن اقدر شعوره..

لكنني في هذا الموقف لا أدري لماذا تذكرت القصيدة التي القاها الشاعر العراقي الشعبي عباس الجيجيان ام صدام حسين أبان حرب الخليج :

البعث مثل المطر بالكاع  وبزود المطر تتكدل وطينه

موبالشعر ... موبالشعر نفدي الحزب بالدم نخط حروفه

واللي يشتمنا ........حيل نشتمه ..... ونحرق والدينه

تل بيدر بدأت تتغير بشكل كبير ... اختفى مركز الشرطة بعد أيام ...باتت أعلام وحدات الحماية فوق التل وبرج الاتصالات ..الفوضى التي كانت موجودة في فرن البلدة اختفت وبات الفرن يعمل بشكل منتظم .. توزيع مادة المازوت بات بشكل دوري ..الحياة تم تنظيمها لكن من الانزعاج وعدم الرضى كانت متواجدة بين الناس كأنوا يحسون بانه تم التخلي عنهم بكل سهولة وان الكورد سوف يصبحون اسياد المنطقة ...هذا الأمر كان واضحاً مدير المدرسة تغير تعامله بشكل كبير معي ومع غيري من الزملاء حتى انه في اكثر من مرة قال ربما اغلق المدرسة وكأن القرار يعود له وليس لغيره ..

تجربتي في تل بيدر ومعايشتي لسكان تل القرى في تلك الفرة الزمنية الحساسة ورصد لردة فعلهم عن كثب وما حصل خلال تلك الأيام أوصلتني لقناعات كثيرة كما تبدى لي للأسف المستقبل بالنسبة لمنطقة الجزيرة مجهولاً

التعايش السلمي هو الذي يبدأ من اول شعاع في الشمس الفجر وينتهي ما اختفاء بريق آخر نجمة في السماء حيث يطل الصباح هذا التعايش الذي ادركت ان تل بيدر قد تفقده في قادمات الايام ليس بسبب فعل ورد الفعل لكن لأن سياسية مدتها تراوحت لأكثر من اربعين عامين باتت ثمارها اليوم ناضجة للاسف ولم تكن تحتاج الى الكثير من التجييش بل كانت تحتاج الى عود من الثقاب

دون وداع ... فضلت أن أترك تل بيدر وأن أعود لبيتي ... تفكيري بدأ كله ينصب في الحسكة وأحيائها بعدما كل ما رأيت ....وازدادت مخاوفي عليها وهذا ما كُنت مُحقاً فيه ...

يُتبع ................

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات