سعي لـ "الاحتفال" أم "كسر عظم"؟

سعي لـ "الاحتفال" أم "كسر عظم"؟
خلال شهر أيلول/ سبتمبر الذي انتهى أمس، شهدت مدينة حلب هجوماً غير مسبوق، وهطلت على أهلها صواريخ من كل الأشكال والألوان، منها ما هو مُحرّم دولياً، ومنها ما هو "رجاج" كعقول قاصفيها، كان أكثرها أذى وعنفاً وتدميراً تلك التي أطلقها الروس، صواريخ أرادوا بها تحويل حلب إلى جهنّم، وبعد أن تجاوزت الخمسة آلاف توقّف أهالي حلب عن إحصاء عددها.

من الواضح أن الروس قرروا التصعيد إلى حدّه الأقصى، وتخلوا عن لهجتهم الدبلوماسية مع الأمريكيين، وارتفعت لهجتهم التهديدية للسوريين، حتى أن بعض وسائل الإعلام صارت تُلمح من بعيد إلى أن روسيا لديها (ميني نوك)، تلك القنابل النووية الصغيرة التي يمكن أن تبيد مدينة صغيرة.

أتى ذلك متزامناً مع جملة من التطورات، من بينها اتفاق الروس ثم اختلافهم مع الأمريكيين حول وثيقة اتفاق سُربّت أجزاء منها، تتعلق بهدنة في حلب، ثم إعلانهما فشل هذه الهدنة، وقصف الأمريكيين لمعسكر لقوات النظام، ورد روسيا بقصف قافلة مساعدات إنسانية، وإمطار حلب بالصواريخ، وانتقال الخلاف بينهما لمجلس الأمن، واختلافهما هناك، وشنهما حرباً كلامية ضد بعضهما بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية، حيث أطلقا وعوداً بأن القادم هو أسوأ.

كانت روسيا عدائية طوال كل هذه المعمعة، وكانت الولايات المتحدة سلبية كعادتها، وكان واضحاً أن روسيا تريد تمرير ما تريد، بالرضى أو الضغط أو حتى لو احتاج الأمر للاحتيال، وكان جلياً أن الولايات المتحدة غير مكترثة بهذا الأمر، وتُماطل وتتردد وتُبدي الكثير من الغموض، ووسط كل تلك المعمعة، لم تجد روسيا أمامها سوى السوريين لتُفرغ فيهم عنفها الزائد.

هذا التصعيد الحربي الروسي الاستثنائي يدلّ في الغالب على أحد أمرين، الأول أنه تصعيد سريع يشير إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي دعم النظام السوري بكل الوسائل منذ الأيام الأولى للثورة، وغامر بالتدخل عسكرياً قبل عام، ولم يُحقق خلال هذه السنوات الخمس العجاف، ولا خلال السنة الجهنمية الأخيرة، أي نصر يُذكر، اللهم سوى تمكّنه من المحافظة على كرسي بشار الأسد ومنع انهياره، وهذا ليس نصراً حتى الآن، وهو يريد حالياً، وقبل انتهاء السنة الأولى من التدخل العسكري الروسي المباشر، أن يحتفل مع قواته بنصر ما، أي نصر يُقدّمه لشعبه الذي يبحث عن أي مؤشر إيجابي لتدخل جيشه في سورية.

بوتين الذي لم يستطع تحقيق أي نصر سياسي بدعمه النظام السوري، وخسر بسببه علاقات مع دول عديدة، وزادت حالة بلاده الاقتصادية سوءاً نتيجة استراتيجيته، أراد نصراً عسكرياً على الأرض، "يُبيّض" فيه وجهه، أمام مئات الممارسات "السوداء" التي قام ويقوم بها في سورية، نصراً يليق بالجيش الأحمر، الذي على ما يبدو أنه "تبهدل" في أفغانستان وأوكرانيا والآن في سورية، لكن هذا النصر لم يتحقق له، فمضت ذكرى مرور عام على التدخل الروسي دون أن يتم ذلك، لا بجيشه الأحمر ولا بحلفائه السوريون والإيرانيون والعراقيين والأفغان ومرتزقتهم.

إن نفينا هذا الاحتمال، يبرز أمامنا الأمر الثاني، وهو احتمال يدلّ أيضاً، أن الروس والأمريكان قد افترقا بالفعل، وهو ما قد تدعمه عدة دلائل، ليس آخرها تبادل التهديدات بين كبار مسؤولي البلدين، والكلام "الجارح" بينهم، وتوعّد كل منهم الآخر بوقف التعاون، والتفكير بخطط جديدة، والتأكيد للآخر بأن الأسوأ مخبئ في القادم من الأيام، وإن صح هذا، فهذا يعني بالتالي أن القادم من الأيام سيكون "كسر عظم" بين الطرفي، في الساحة السورية وعليها، وسيحاول كل منهما إبراز أنيابه وأظافره، واستخدام ما يملك من أوراق قوة في مواجهة افتراق استغرب الكثيرون عدم حصوله منذ زمن بعيد، ومن الممكن أن يتطور هذا الخلاف بشدّة قبل رحيل أوباما ليوصل لدمار أكبر أو حل، رغم أن الأمريكيين حرصوا على تأجيل هذا الخلاف للرئاسة المُقبلة.

يعتقد بوتين أنه جعل روسيا دولة عُظمى من جديد، واعتقد أنه صار -شخصياً- عضواً في نادي العظماء، وبات يعتقد أن رغباته أوامر، ليس على الروس وحدهم، بل على السوريين أيضاً، ويريد من هذا المنطق أن يفرض رؤيته للحلول، في سورية وغيرها، ويعتقد أيضاً أن أسلوب "العصا لمن عصا" هو أسلوب صالح مع الأوربيين والأمريكيين، وأن سورية باحة خلفية للكرملين، من حقه أن يُمارس فيها كل موبقاته، ويفرضها على جميع الأطراف، السورية والإقليمية والدولية.

يتناسى بوتين، رجل الاستخبارات الصغير الذي قفز بسرعة إلى سدّة الحكم، أن كل الأطراف لديها أوراق قوة ضدّه، وأن لا أحد قاصر هذه الأيام، وأن تركيا وأوروبا ودول الخليج والولايات المتحدة، كلها تمتلك أوراق قوة، يمكن أن تلعب بها وتُبرزها وقت الشدّة، وليس آخرها النفط والعقوبات الاقتصادية والدرع الصاروخي وأوكرانيا والقرم ودول الاتحاد السوفييتي القلقة وغيرها الكثير، وأن إمكانية تسليح ثوار سورية، أمر ممكن وليس مستحيلاً، ويعتمد على الحسابات الأمريكية.

تصبّ التهديدات اللفظية الروسية ضمن سياق الدعاية الإعلامية الحربية ليس إلا، وكل ما تستطيع روسيا فعله عملياً هي إفراغ مستودعات أسلحتها القديمة فوق رؤوس الحلبيين، وربما في مرحلة ثانية فوق رؤوس الحمويين والديريين والدرعاويين وغيرهم، بحجّة المصالح الروسية العليا، والأمن القومي الروسي، الذي بات حجّة لتبرير القتل، حاله كحال الأمن القومي الأمريكي، وستبقى الأرض السورية مشاعاً، للأطراف الداخلية، النظام والميليشيات الطائفية والفصائل الإسلامية والكردية، وللأطراف الخارجية، الكثيرة جداً، ريثما ينضج الخلاف الروسي الأمريكي، ويتحوّل بالفعل لتحدي "كسر عظم" تعرف فيه روسيا حدّها.

التعليقات (1)

    أيمن عصمان ليبيا

    ·منذ 7 سنوات 7 أشهر
    لم يفعلها أوباما على مدى 5 سنوات ونصف السنة ولن يفعلها الآن فقد قرر ترك سوريا على طبق من ذهب لروسيا وإيران والبداية بحلب ، كان الله في عون أهل سوريا وثوارها
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات