بين سوريا ولبنان: ما تحت الوطني وما فوقه

بين سوريا ولبنان: ما تحت الوطني وما فوقه
تعتمد إليزابيث بيكار مداراً للقسم الثالث (الأخير) من كتابها الجديد مسألةَ "التمايز" ما بين طرفي "الثنائي" الذي يمثّله سوريا ولبنان. وهي تركّز هنا على ماجريات المرحلة التي بدأت نحو سنة 2000 وشهدت انقلاباً في مجرى العلاقة سنة 2005، في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، ثم شهدت انقلاباً آخر مع اندلاع الثورة السورية في سنة 2011.

وهي تنفذ إلى البحث في هذا "التمايز" من مدخلين أ- إشكال الديمقراطية التي فرضت نفسها، مع أفول القرن الماضي، على أنها الصورة الشرعية للعلاقة بين الحكّام والمحكومين. ب- وإشكال المنازعات الإقليمية واختراقها حدود الدول وما يسفر عنه ذلك من تغيير في صيغة العلاقة السورية اللبنانية.

ويستوقف المؤلفة ما شهدته هذه السنوات من أخذ وردّ بين مثقفين من البلادين. فترى في ذلك عبارة من العبارات عمّا تسمّيه "التذاوت" – وسبق أن أشرنا إليه – أي عن بلوغ التبادل حدّ التداخل أو التخالط بين "الذاتين" بخلاف ما يكون عليه الأمر في ما قد يعرض من حالات حوار أو تبادل يجري بين ذاتين ناجزتي الاستقلال. وهي تشير ههنا إلى ظواهر الانفعال في أوساط من المثقفين اللبنانيين بما أطلق عليه اسم "ربيع دمشق" وإلى استمرار هذا الانفعال (الذي أصبح تفاعلاً) بعد خروج القوّات السورية من لبنان في ربيع 2005 وتجسيده على الخصوص في نوع من التصوّر المشترك للعلاقة السورية اللبنانية جسّده "بيان بيروت دمشق – دمشق بيروت" الذي صدر في أيّار/مايو 2006 وانتهى إلى حمل مئات من التواقيع.

وإذ تتوقّف بيكار عند ما تسمّيه "التفارق الديمقراطي" بين النظامين اللبناني والسوري تنكر، متحدّية الشائع وبعض الظاهر، أن يكون النظام القائم في لبنان نظاماً ديمقراطيّاً، موضحة أن انتفاء هذه الصفة عنه تَعمّق في عهد الوصاية السورية واستمرّ بعد جلائها. وهي قد كانت اعتمدت لتعريف الديمقراطية سمتين أخذتهما عن راي هنبوش وهما "التنافس المفتوح" و"الاستيعاب". وهي تأخذ عن هنبوش أيضاً حصر الثقافة السياسية، بالمعنى الاجتماعي، في دور "المتغيّر المتدّخل" فتوضح أن أثر هذه الثقافة يكون مدرجاً على الدوام في أنظمة زمنية وسياقات تحوّل محمولاتها وتوجّهاتها بلا انقطاع. لذا كان من غير المناسب أن تعزى للتمثلات الدينية أو العائلية للسلطة ولما تبديه الولاءات ما دون الوطنية أو ما فوق الوطنية من مجافاةٍ لنظام الدولة فاعليةٌ مستقرّة من طور إلى طور. وأما ما يبدو للمؤلفة مفقوداً من شرائط الديمقراطية فهو ما يسمّيه ميشال كامو التكامل ما بين المجتمعين المدني والسياسي، إذ لا يستقيم بغيره الاستيعاب ولا التنافس المفتوح. وذاك أن "النخبة السياسية" في لبنان تنفذ إلى الهيمنة على الجمهور من البنى الأهلية. وهو ما يترك الباب مفتوحاً لتسلّط الحاكمين. وهو ما يترك أيضاً فراغاً ما بين الدفاع عن الخصوصيات والقبول بنظام سياسي مشترك.

هذه الخانة الفارغة ليست سوى الرابط المدني الذي ينشئ أساساً معنوياً لاحترام الأقلية في اختلافها وللاعتراف، في الآن نفسه، بحدود هذا الاحترام في الممارسة السياسية. عليه أمكن أن تنقل "لوموند" عن لبنانيين ما مفاده أنه ليس عندهم ديكتاتور واحد بل حوالي عشرين!

عليه أيضاً أمكن أن ينقلب الزعماء اللبنانيون بمنتهى السرعة على الحركة التي شهدها آذار/مارس من سنة 2005 ليتبادلوا، في انتخابات ذلك العام، تأمين بقائهم في مؤسسة السلطة. مع ذلك لا تغفل بيكار خصائص للحركة الشعبية في لبنان تفتح لها أفقاً ديمقراطيّاً. فإن كان لا يستقيم ادّعاءُ اللبنانيين أبوّةَ ما سمّي "ثورة الأرز" لما سمّي "الربيع العربي" فإنه يبقى أن مروحة المطالب التي تتسع لها الحركة اللبنانية (بما فيها، مثلاً، إقرار المثليين على حقوقهم) لا يوجد نظير لها في أيّ من المجتمعات العربية الأخرى.

وأما في سوريا فإن علمانيةً مزعومة تحجب نظام تفضيل واستبعاد أكثر حدّة من الطائفية المؤسّسية إذ هو بمنجاة من التنظيم الدستوري. ولا تعدو المؤسّسات السياسية أن تكون أدوات لتأبيد هذا النظام الذي يصحّ وصفه بـ"الشعبوي التسلّطي" إذ يبقى تعريفها القانوني أدنى أهمّيةً من سلوك المستأثرين بها في الممارسة. ولقد أمكن لـ"ربيع دمشق" الذي تخصّه المؤلّفة بتقدير رفيع أن يمثّل، بديناميّاته وبإخفاقاته أيضاً وبصموده "الدفين" طوال العقد الأوّل من القرن، منطلقاً لتعبئة مدنية مستعادة كان يصعب تخيلها بعد إبعاد السوريين مدّة عقدين عن السياسة شرطاً لاتّقاء دولتهم "اللاوثانية". قليل جدّاً أن يقال، والحالة هذه، أن التبادل السياسي بين دائرتي الحكم والمجتمع كان معطّلاً شأنه في الحالة اللبنانية.

لا يستقيم، بعد هذا، أن يعدّ التزامن ما بين التحرّك السيادي في لبنان والتعبئة من أجل الديمقراطية في سوريا محض اتّفاق، بل هو يدلّ على توافق في الأثر لتحوّلات مختلفة أهمّها الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وموت حافظ الأسد ومبادرات "التدمير الخلاق" الأمريكية. فضلاً عن تطوير الوسائط الجديدة للتواصل وهي قد رفعت نسب التلقي في كلّ من البلادين لما يجري في الآخر. وهذا في ظرف بات فيه التفاعل أكثر تسيّساً بالنظر إلى وحدة السلطة مما كانت عليه حال التأثّر العائلي أو الطائفي المألوف.

على أن أهمّ ما في هذا القسم الأخير من كتاب بيكار اختيارُها تفريدَ ما تراه حاصلاً من توتّر مباشر بين طرفَي الثنائي المتشكّل من "المحلّي"، أي ما دون الدولة، و"الإقليمي"، أي ما فوق الدولة، وجعلَ علاقة التوتّر هذه موضوعاً للتحليل تُنحّى منه الدولة نفسها وسلطتها. وهي تنتقي لهذه الغاية حالتين طرفيتين هما حالة مزارع شبعا وحالة وادي العاصي ومرتفعات القلمون. ويقتضي هذا البحث إعداد صفّين من الأدوات: أنثروبولوجي للنطاق المحلّي واستراتيجي للمستوى الإقليمي. فالحالة الأولى تنصب في مواجهة المثال الوستفالي وشرع الدول كسوراً في السيادة وفجوات في الوثائق وتناقضاً في تأويل الوقائع. وهي تنصب، وهذا هو الأهمّ، التعدّد في انتماء الجماعة وما في هذا الانتماء من سيولة تميّزه في هذا المشرق. وإلى الشمال، تنمّ حالة بلدة عرسال، مثلاً، بما في العلاقة السورية اللبنانية من اختلاط يُحصى بين مفاعيله التعدّد في تصوّر الحدود وتبعية هذا التصوّر للبعد الاجتماعي للنظرة. ذاك يشهد، في آن، لقوة الانتماءات الأوّلية وللمرونة الممكنة في معالجتها. ذاك يردّنا أيضاً إلى ما جرّته قسمة 1920 من لَبْس لا يزال يتجدد بصور شتى. وحين نضع بإزاء هذا النطاق المحلّي عمقَ الأفق الإقليمي يسعنا الافتراض، في ما ترى بيكار، أن دول الشرق الأوسط ومجتمعاته متّحدة في تشكيل إقليمي ذي صفة تنازعية. وهو ما يسوّغ القول أن الحرب الجارية في سوريا لم "تَفِض" على لبنان بل بدأت، بهذا المعنى، في البلادين معاً.

مع ذلك، تبقى بيكار بعيدة عن إنكار حقيقة "الدولة" في البلادين إذ أثمرت هذه في نحو من مئة سنة بنى ومرتكزات هي من الضخامة والتعقيد بحيث يتعذّر تخطّيها. وفي الراهن، لا تحول الدولة دون نموّ الشبكات الإسلامية، وهذه تقرن المحلّي بالإقليمي مباشرة. ولكن الدولة قد تسخّرها وقد تقاومها بمقادير من النجاح متباينة. هكذا خرقت الاستخباراتُ السورية شبكاتٍ سنّية لبنانية بينها التنظيم المنتسب إلى "الإخوان" ومن أُطلق عليهم اسم "الأحباش" وعَقدت صلاتٍ في المخيّمات الفلسطينية مع سلفيين منهم "عصبة الأنصار" و"جند الشام" واجهوا زعامة رفيق الحريري… إلخ.

في خاتمة الكتاب، تعود بيكار إلى الدولة ورسوخ مقامها في ما يتعدّى ما ذكرنا من صور اللَبْس والسيولة. فترى أن تعوّدَ الجماعات المحلّية نظامَ الدولة وتَدرُّبَ "النخب" على تدبيرها ليسا مساقاً تقانيّاً ومكتسباً مادياً وحسب، وإنما آلا إلى استدخالٍ أثمره الإكراه في كثير من الأحيان لصيغ من العلاقة بالآخر وللتصرّف في الفضاء العمومي ولتمثّل ما هو جماعي بما يعرّفه من حدود وقواعد ومراتب. ولا موجب، بعد ما سبق كلّه، للتذكير بأن هذا كلّه، في ما ترى بيكار، قد تعرّض، على ما له من رسوخ نسبي، وما يزال يتعرّض اليوم لتحدّياتٍ مزلزلة… وعلى ما يمليه الزلزال الجاري من توقّعاتٍ متشائمة أوضحُ أسبابها حركاتُ السكّان الحاصلة والمتوقعة في ظروف الحرب وما بعدها، فإن المؤلّفة تجد ما يكفي من العزيمة لصياغة مبدأ توصي برعايته وهو يترتب على تناولها للنظامين السوري واللبناني برمّته. ذاك هو جعلُ المحلّي بما يتمخّض عنه من تطلّعات ومبادرات بمثابة القاعدة لشرعية السلطة وإحلالُ المجتمع في قلب السياسة. وهو في نظر المؤلفة ما يمثّل ردعاً لاستئثار الحكّام وزبانيتهم ويعيد "من الأسفل" تأسيس "الجماعة السياسية"…

لم يبق بعد هذا سوى حاشية نقديّة نعلّقها على هذا الكتاب في عجالتنا المقبلة

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات