هل يحتفظ الموارنة بالرئاسة؟

هل يحتفظ الموارنة بالرئاسة؟
الفراغ الرئاسي في لبنان مسألة عمرها أزيد من ربع قرن، فمن الشغور في رأس الدولة بعد الفشل في انتخاب خلف للرئيس أمين الجميّل في خريف العام 1988، إلى شغور السبعة أشهر مع انتهاء الولاية الممدة عسفاً للرئيس إميل لحود في خريف العام 2007، إلى الشغور المتمادي منذ انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان ومغادرته قصر بعبدا قبل عامين ونصف، ثمّة ثلاثة نماذج، بسياقات جد مختلفة، إنمّا موصولة ببعضها البعض بأكثر من رابط.

أولى هذه الروابط الجنرال ميشال عون. قائد الجيش الذي رأس الحكومة العسكرية المؤقتة وسكن قصر بعبدا بعد مغادرة الرئيس الجميّل له وللبلاد في اثر انتهاء ولايته. سوّغ الأمر بما اعتبر عرفاً دستورياً: نظراً لتولي قائد الجيش فؤاد شهاب رئاسة حكومة من هذا النوع للفترة السريعة التي تلت تنحي الرئيس بشارة الخوري في اثر «الثورة البيضاء» عليه عام 1952. لم يتمكن عون حينذاك من الإقلاع بحكومة عسكرية مسيحية إسلامية، واكتفى بنفسه وبضابطين كاثوليكي وارثوذكسي، بعد الاستقالة الفورية للعسكريين المسلمين الذين سمّاهم منها. برعاية سورية، اعتبرت حكومة الرئيس سليم الحص مستمرّة في الوجود في المقلب الآخر، في بيروت الغربية. 

الفراغ وقتها عنى انشطاراً بين حكومتين، لبلاد كانت في الأساس مقسّمة، وفي حرب أهلية منذ سنوات طويلة. وبخلاف شهاب الذي اكتفى بتأمين الانتقال السلمي من رئيس إلى آخر عام 52، أدرك عون ارتفاع شعبيته بين المسيحيين بسرعة، ورغب الرئاسة لنفسه، وشكّلت هذه الرغبة دافعاً له لإعلان «حرب التحرير» على الجيش السوري، وعوّل على مفاوضات ما بعد الحرب التي أفضت إلى مؤتمر الطائف، علّها تتوّجه رئيساً، وحين أدرك أن الأمور ذاهبة لخلاف ذلك، جعل من تقليص صلاحيات رئاسة الجمهورية مسوّغاً لرفضه، ولأحقيته في الرئاسة هو، وأعلن بعدها الحرب على الواقع. أعلن حل المجلس النيابي، الذي كان يجدّد لنفسه منذ العام 1972 بسبب الحرب، ودعا إلى انتخابات نيابية وهو لا يسيطر إلا على قسم قليل من الأرض اللبنانية، ثم اصطدم مع «القوات اللبنانية» في حرب أهلية مسيحية شرسة، دفعت «القوات» أكثر بإتجاه «القول بالطائف»، ودفعته هو بإتجاه عزل نفسه أكثر، وصولاً إلى الاجتياح السوري لمناطق سيطرته، ولجوئه إلى السفارة الفرنسية، ثم نفيه.

 لكن محصلة المفارقات اللبنانية، أنّ رمزية عون في مقاومة السيطرة السورية على لبنان، وشعبيته الواسعة عند المسيحيين كصاعد من المؤسسة العسكرية الشرعية بدل الميليشيات، وربطه أحقيته بالرئاسة برفضه تقليص صلاحيات رئاسة الجمهورية، أعطته حيز استمرارية، لا سيّما مع قيام النظام اللبناني الجديد، في كنف الوصاية السورية بعد الحرب، على «حدث تأسيسي» هو انتخابات 1992 الحاصلة في ظل مقاطعة مسيحية شاملة احتجاجاً على قانون الإنتخاب. استمرّ عون الأكثر شعبية في الوسط المسيحي طيلة الربع قرن الأخيرة، وكما ارتبطت ظاهرته بفترة الفراغ الرئاسي نهاية الثمانينيات، عادت وارتبطت بالفراغ الرئاسي الحالي، مع فارق أنه قضى الفترة الأولى رئيس حكومة عسكرية مؤقتة من ثلاثة مسيحيين.

 في حين أنه «قطب الفراغ» الحالي، الذي يبرّر الحائلون دون تأمين نصاب برلماني منذ عامين ونصف عصيانهم على الواجب الدستوري بإنتخاب رئيس فعلتهم، بدعوى ضمان وصوله هو إلى القصر، والذي أدى انسحاب رئيس «القوات» لمصلحته، بعد أن كان ترشّح في الأساس لعرقلة وصوله، إلى تشكيل نوع من «إجماع مسيحي» حول أحقية عون بالرئاسة. وهو إجماع نسبي بطبيعة الحال، على ما أظهرته صناديق الانتخابات البلدية بالنسبة إلى الأحجام السياسية في الشارع المسيحي، كما أنّه «إجماع عوني قواتي» لم يتطور لاندراج «الموارنة الأقوياء الآخرين» تحت لوائه، ولم ينل معمودية البطريركية المارونية ـ بخلاف ما اعتبر «معمودية» لزعامة عون بعد عودته من المنفى، وتصدره الانتخابات في الدوائر المسيحية، حين قال البطريرك بطرس صفير أنذاك بأنه قد أصبح لكل طائفة زعيم.

بيد أنّ ما تبدّل منذ ربع قرن إلى اليوم هو الترتيب الدستوري بشأن الفراغ. تجربة عون كانت مدخلاً لالغاء العرف المتصل بتولية قائد الجيش رئاسة حكومة عسكرية مؤقتة في حال شغور منصب الرئاسة، والمادة 62 من الدستور من بعد تعديلها وفقاً لإصلاحات الطائف، باتت تعتبر أنه «في حال خلو سدّة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء». وما دام الدستور نفسه يستبعد أي صلاحية تشريعية للمجلس النيابي قبل انتخابه رئيساً جديداً، صرنا إلى وضع تكون فيه الحكومة مجلساً رئاسياً، ولا تكون فيه الحكومة في الوقت نفسه سلطة اجرائية عادية، ما دامت السلطة الاشتراعية ممتنعة بسبب عصيان النواب على الدستور، بعدم انتخابهم لرئيس.

كل هذا، والموارنة ما زالوا يتعاملون مع الرئاسة المحتجبة منذ عامين ونصف بأنّها موضوعة في الأمانات، وأنّه ليس هناك خطر حقيقي لفقدانها، وأنّ الأخطر هو وصول رئيس ماروني له تغطية إسلامية أكثر مما له من تغطية مسيحية. يضاف الاستشعار بحصيلة ايجابية مسيحياً، للإنقسام الإسلامي المذهبي في مقابل التفاهم بين أكبر قوتين مسيحيتين، ولو تمادى الفراغ. هذا مع كون التيار العوني لم يبدّل قيد أنملة في التزاماته مع «حزب الله» والمحور الإيراني السوري، بخلاف أزمة العلاقة بين «القوات» و»تيار المستقبل» منذ الاختلاف على قانون الإنتخاب، ووصولاً إلى الاختلاف على أيّ مرشّح من حلفاء «حزب الله» هو الأقل وطأة من الآخر.

ومع الحركة الجديدة للرئيس سعد الحريري داخلياً وخارجياً، لتجاوز الانسداد في الملف الرئاسي، وما أعقبها من سجال حول «سلّة» الرئيس نبيه برّي، تمكّنت البطريركية المارونية، التي لم تنهض بدور حيوي في مواجهة الشغور في العامين السابقين، من التقاط اللحظة، بنداء جديد لمجلس المطارنة، وعلى قاعدة رفض مفهوم «السلّة» بما تعنيه من ربط انتخاب الرئيس العتيد بتفاهمات حول مواضيع أخرى مثل الحكومة المقبلة، وقانون الانتخاب، ورزمة التعييينات، مشدّدة على التقيّد بالدستور بحيث أن الرئيس يجب أن يكون «حرّاً من كل قيد»، والا كان رئيساً «صورياً». كذلك رفض النداء ما هو رائج من تلاعب بمفهوم الميثاقية، اذ شدّد على أن «الميثاق» هو «الدستور»، و»شريعة اللبنانيين الأساسية»، وليس «مجرّد تسويات أو تفاهمات عابرة، يُقبل بها اليوم، ويراجع في شأنها غداً».

لكن الواقع أكثر تعقيداً من هذه «المعيارية»: في العام الأخير من عهد الرئيس سليمان، كان ثمة رئيس، ولم تكن ثمة حكومة (كانت مستقيلة)، وجرى التنادي لتشكيل الحكومة الحالية، بداعي أنّها ضرورية (بما أنّه لا اتفاق على رئيس جديد). فتشكّلت الحكومة الحالية بهدف «وراثة مقام الرئاسة مؤقتاً». ما لا يقل خطورة من استمرار الفراغ هو وصول رئيس، وخصوصاً العماد عون، من دون امكانية أن تتشكل حكومة بعد ذلك في حين تقترب الولاية الممدة للمجلس النيابي من الانتهاء، فننتقل من وضعية رئيس بلا حكومة إلى حكومة بلا رئيس إلى رئيس بلا حكومة وبلا برلمان وبلا قانون انتخابات نيابية ومرتبط بـ»حزب الله» عضوياً، مع فائض في تفسّخ النظام السياسيّ، واضمحلال «التغطية الدستورية» لمساراته.

أما «شريعة اللبنانيين الأساسية» التي لا تتبدّل التي تحدّث عنها المطارنة فهي مقولة إشكاليّة بامتياز، وليست مقولة يركن لها في مواجهة التلاعب بالميثاقية الذي يشجبه المطارنة عن وجه حق. الدعوة لـ»التقيّد بالدستور» وبـ»شريعة اللبنانيين» فوق الدستورية في آن هو مسألة محيّرة. لكنها تعكس أيضاً تصوراً مارونياً مطمئناً «فوق اللازم» للفراغ الرئاسي المتواصل، كون «الشريعة الأساسية» عنده تجعله ينظر إلى رئاسة الجمهورية التي هي من «نصيب الموارنة» (نداء المطارنة السابع، 2007) كما لو كانت مؤسسة الخلافة لديهم، وكما لو كان «احياؤها» هو المسلك الواجب حال ضياعها، على غرار التعاطي الإسلامي مع ضياع الخلافة العثمانية.

ثمة إجماع مسيحي، وثمة إجماع لبناني، على تلافي طرح سؤال: «هل يحتفظ الموارنة بالرئاسة؟». وأكثر، هو إجماع على أنّ السؤال بلا معنى. بلا معنى ما دام هناك «شريعة اللبنانيين الأساسية» هذه. يبقى أنّ التنبّه إلى أنّ هذه الشريعة هي بحكم «اللاموجودة»، إلا من باب تعطيل الدستور بالدستور، بدلاً من أن يؤدي الدستور مؤداه في حدّ السلطة بالسلطة، هو الذي يعود فيعطي للسؤال حيثية وراهنية. التمادي الزمني للفراغ يجعله مطروحاً أكثر، وإن كان السؤال لا يتعلّق بمنصب فقط، ولا بالنظام السياسي فقط، وإنّما بمآل الدولة نفسها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات