"استدراج عروض" روسي لقوات برّية

 "استدراج عروض" روسي لقوات برّية
تنقسم آراء السوريين، والغربيين أيضاً، حول تقييمهم للتدخل الروسي العسكري المباشر في سورية، ففي حين يرى البعض أنه بطولة ونجاح روسي، واستسلام وسلبية أمريكية، وتمهيد لسيطرة روسية كبرى على الشرق الأوسط، يرى آخرون أنه رعونة واستسهال روسي، وخبث وتوريط أمريكي، وتمهيد لإغراق "البطل الهُمام" في مستنقع من الوحل والرمال المتحركة.

من العصب -في المرحلة الراهنة على الأقل- الجزم أي الرأيين هو الأصح، فالاحتمالان قائمان وممكنان، ويعتمدان على ما يملكه كل طرف من خطط لقادم الأيام، لكن، المؤشرات العامة توحي بأن روسيا تواجه الاحتمال الثاني بشكل أكبر، وتحاول عبثاً أن تجد حلولاً مُبتكرة لمنع ذلك.

تدخَّل الروس في سورية عسكرياً وبشكل مباشر قبل عام وعدة أسابيع، واعتقدوا في حينها -ببساطة- أنه تكفيهم قواعد عسكرية جوية، يضربون من خلالها بيد من حديد، ويُدمّرون الأرض ويحرقوها، ليُمهّدوا لقوت النظام لتستولي على الأرض و"تخطفها" من يد المعارضة "العاقّة" وفق المنطق الروسي.

لكن -وببساطة أيضاً- لم تنطبق حسابات الحقل على حسابات البيدر، إذ سرعان ما اكتشف الروس أن من يعتمدوا عليهم هم أفّاقون، مجموعة من "البرابرة" ومرتزقة، همومهم تختلف تماماً عن هموم الروس العسكرية، يقبعون كالجوارح القمّامة الجاهزة للانقضاض على الجِيَف، ينتظرون الأرض المحروقة التي يُخلّفها الروس لينقضّوا على الغنائم، يسرقون وينهبون و"يُعفّشون"، باستراتيجية واضحة ثابروا عليها لسنوات.

تنقسم قوات النظام التي كان يأمل الروس الاعتماد عليها، إلى ثلاث فئات، الأولى بقايا الجيش النظامي، والثانية الميليشيات الطائفية، والثالثة اللجان الشعبية غير النظامية. الأولى منها بالكاد هي متماسكة، ولا يمكن الاعتماد عليها، لأن جنود الجيش بالأساس هم من كل الطيف السوري، زجّهم النظام عنوة بحرب ضد أهلهم، وقنّن خروجهم من الثكنات خوفاً منهم، ولو خرجوا لن يستطيع السيطرة عليهم، وسيشهد الجيش انشقاقات ضخمة، غالبيتها ستتجه للانضمام لقوات المعارضة، أما الثانية والثالثة، فهي ميليشيات غير نظامية، تحوّلت مع الأيام إلى مرتزقة، وثلّة من المجرمين وقطّاع الطرق والقتلة المأجورين، يتهربون من المشاركة في المعارك، وإن أُرغموا يُشاركوا للحصول على غنائمها، لا لتحقيق انتصار لروسيا أو للنظام، وبالتالي هم غير موثوقين حالهم كحال العصابات والمجرمين.

أيقن الروس -متأخرين- أنه يستحيل تحقيق انتصار بالاعتماد على قوات النظام والميليشيات "الرديفة" لها، وورطهم النظام بوعود خلّبية لا يستطيع تحقيقها، فراحوا يبحثون عن قوات برّية بديلة عن قوات النظام التي لا طائل منها.

طرح الروس "مناقصات استدراج عروض" لـ "استئجار" قوات عسكرية يمكن أن تُجنّبهم التدخل البري، الذي سيكون بداية لغرقهم في مستنقع، فالتفتوا بداية إلى إيران، منبع المرتزقة الخصب، وخزان المقاتلين الطائفيين، فمنحوها امتيازات في دمشق، وعلى طول الخط الحدودي مع لبنان، مقابل أن ترسل ما لديها من مقاتلين، لبنانيين وعراقيين وأفغان، كقوة برّية مساندة يمكن أن تسيطر الأرض وتُجنبهم التورط، لكن إيران "الباطنية" المستعدة دائماً للبيع والشراء، استغلت الوضع لتدعم تواجدها في هذه المناطق، وتُثبِّت أقدامها في مناطق استراتيجية ضمن (الكوريدور) الشيعي الذي تُخطط له، فلم تُرسل لدعم الروس سوى مقاتلين أفغان غير مُدرّبين باتوا يُقتلون بسهولة وبالمجان.

قبل ذلك، التفت الروس لمغازلة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي يسعى لفدرلة شمال سورية، وعرض عليه دعم (روج آفاه) مقابل الحصول على دعم برّي، ووافق الحزب الأوجلاني، لكن الروس سرعان ما أدركوا أن مقاتلي جبل قنديل، الذين لا يعرفون سورية ولا جغرافيتها ولا لغتها ولا أهلها، لا يهمها منها شيئاً سوى "غرب كردستانهم"، واستغلوا الدعم الروسي ليتمددوا ويحتلوا قرى صغيرة متناثرة ويُهجروا سكانها، غير عابئين بما يريده الروس لتفادي التورط البري.

يُحاول الروس الآن إغراء تركيا، عسى أن تقتنع بأن تُسخِّر فصائل المعارضة التي "تمون" عليها، ليكونوا الرديف البري لروسيا، معتقدة أنها يمكن أن تستغلهم لصالحها ثم تحرقهم متى تشاء، وعرضت على تركيا أن تزودها بمضادات جوّية مّتطورة رغم أن الأخيرة حليفة الناتو لا تحتاج من روسيا مثل هذا العرض السخي، لكن المؤكد أن تركيا لن تقبل هذا العرض، ليس لكرم أخلاق، بل لأنها تُدرك أن مقاتلي المعارضة سيرفضون بشدّة لأنهم قبلوا الدعم التركي من أجل أن يُحاربوا الأسد وداعش والأكراد، لا من أجل أن يُحاربوا مع الروس.

يقول أحد الخبثاء، إنه من غير المًستبعد وفق هذا المنطق، أن تلتفت روسيا إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وأن تطلب منه دعماً برّياً مقابل أن تؤمن له دعماً جوياً، أو أن تعده بنصيب وحصّة في حكومة النظام، كوزير أو مدير أو نائب رئيس.

لم يبق أمام الروس سوى أن يُعلنوا بوسائل الإعلام عن "مناقصة دولية" لقوات برّية رديفة لقواتهم الجوّية، يمكن أن تُجنبهم مخاطر التدخل البري، ونتائجه الكارثية على روسيا وجيشها واقتصادها، لكن المشكلة أنه حتى بمثل هذا الإعلان، لن تجد روسيا ضالتها، ذلك أن أحداً لا يهمه ما تقوم به روسيا في سورية، وكل من يشاركها الآن هو مُقتنص فرص انتهازي، يسعى لتحقيق أهدافه ولتذهب روسيا ومشاريعها إلى الجحيم.

لا يمكن أن ينتصر الروس في سورية بحليف كالنظام الحالي، ولا بقوات كقوات النظام على اختلاف تسمياتها، ولا حتى بميليشيات "رديفة" طائفية، ولا بمرتزقة موالين لإيران، من لبنانيين وعراقيين وأفغان وباكستانيين، ولا يمكن أن يُحققوا نصراً بميليشيات كردية، إيرانية وتركية وشيشانية، ولن يجدوا فصيلاً سورياً معارضاً يوافق على التحالف معهم، مهما صغر شأن هذا الفصيل وانحطّ قدره.

كل هذا، وغيره من التحديات، والموقف المُحرج الذي بات فيه الروس في سورية، ونضوب الخيارات، قد يدفع المؤسسة العسكرية الروسية لاتخاذ قرار للاعتماد على قوات روسية برّية، عندها فقط ستغرق روسيا في الرمال السورية، وسيدفعها ذلك لترجّي حل، وستقبل بتحوّل سياسي في سورية، بل وربما ستطلب في حينها بمحاكمتهم، على ما فعلوه بالشعب السوري، وما فعلوه بها أيضاً.

التعليقات (1)

    مهاجر

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    كتبت فأبلغت فأصبت كبد الحقيقة. تشكر أستاذ عودات وسلمت يمناك.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات