يومَ "أرعبني" ميشال عون

يومَ "أرعبني" ميشال عون
صباح الرابع عشر من آذار عام 1989.

حينها كنت حديثة العهد بلبنان وبحروبه ولازلت اكتشف بيروت وميليشياتها المتقاتلة...بيروت، المدينة التي لم أولد فيها لكن عدت إليها وعائلتي نهاية العام 1986 بعد أن أنهى والدي عمله الطويل في الخليج. 

ذاك الصباح أربكتني الطرقات التي بدت متقرحة بالية جراء سنوات التقاتل فيما بدت الدشم المكدسة وكأنها جزء من تخطيطها المدني. لزمني وقت طويل لأفهم شوارع بيروت وكيف يمكن التنقل عبرها في ظل المعارك المتقطعة..

اخترتُ يومها أن أجرب باص النقل العمومي بدلاً من السير إلى الجامعة. جلست في مقعدي أتابع عادتي المستجدة في اكتشاف المدينة الممزقة من النافذة بانتظار أن نقترب من تقاطع الأونيسكو- كورنيش المزرعة باتجاه الكولا حيث جامعتي. 

فجأة اهتز الباص على دوي أرعبني والركاب جميعاً. توقف السائق وهرع كل من في الباص ركضاً نحو الشارع. وفي ثوان تفرق من كان حولي. بدوا لي ذوي خبرة في كيفية الهرب والذوبان سريعاً حال وقوع حدث أمني كالقصف فيما كنت الوحيدة التي لم تعرف كيفية التصرف في هكذا موقف. لم نعرف ماذا حصل أو أين نزلت القذائف لكنها كانت قريبة كما بدا من الدخان. كنت آخر من غادر العربة لإلى الطريق وكان قربي شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة يسير ببطء، ارتبكت حياله فهل أركض وأتركه أم أسير معه وأجازف إن وقع قصف جديد،كنت خائفة وقدماي ترتعشان ولم أكن واثقة من معرفتي تماماً للشوارع الخلفية للعودة بل بدا لي للحظة أني لا أعرف إلى أين يجب أن أذهب. مشيت على الرصيف وأنا انظر خلفي إلى أن تأكدت أن الشاب بات آمناً بعض الشيء وواصلت السير في شوارع متعرجة لأصل الى البيت في محلة زقاق البلاط. 

عرفت حينها أن ذاك القصف أودى بحياة مدنيين عابرين في الطرق فيما بات يعرف بمجزرة الأونيسكو. كان الاستهداف في إطار تبادل للقصف المدفعي خلال ما عرف بـ"حرب التحرير" التي أطلقها الجنرال ميشال عون ضد الجيش السوري الذي كان يحتل لبنان حينها. 

ألحت عليّ هذه الذكرى وأنا أحاول استيعاب حقيقة أن التقاطعات السياسية التقت في لحظة شديدة الغرابة وأن ميشال عون سيكون على الأرجح رئيساً للبنان. وما بين يوم مجزرة الأونيسكو وقبلها وأين نحن الآن سنوات طويلة من الحرب والسياسة والمواقف والتبدلات الهائلة بحيث لا تبدو أكثر من تفصيل صغير في ظل كل هذا العبث الحاصل حولنا. 

وتحت وطأة ثقل الذاكرة هذا هرعتُ إلى يوتيوب لأنعش ما ذوى في مخيلتي من مواقف وأراء لميشال عون وكم تأرجحت وتناقضت على مدى كل هذه السنوات.

 إنه الجنرال  الذي ألهب الجماهير بوعود التحرير حتى إنه قال يوما إنه سيواصل القتال ضد المحتل حافظ الأسد وقواته حتى الرمق الأخير ليفاجئ مقاتلوه بعد يوم واحد أنه كان أول الهاربين بعد قصف قصر بعبدا بالطيران السوري..

والحقيقة فإن تاريخ عون كما تاريخ سواه أيضاً حافل بلحظات أتاحت له ولهم أن يمثلوا جماهير عريضة وأن يعبروا عن أوهام تراءى لمناصريهم أنها آمال ووعود وما لبثوا أن خذلوهم.

 على هذا النحو من الأوهام بدأت تنتشر أغان تحتفي بالجنرال الذي صار عكل الأطراف تقريباً على مدى عقود ليصل إلى حلم رئاسة الجمهورية. تقول واحدة من أغاني الساعات الماضية: "يلا يا لبنانية هزوا فيكن كل الكون.. رئيس الجمهورية هوي هلق ميشال عون".. 

يا للسعادة.. 

لكن بعيداً عن نشوة الفرح التي تغمر التيار العوني والبعض ممن تتقاطع مصالحهم معه فلا مفر من التأمل في أي عهد ينتظرنا في لبنان بعد أيام قليلة. كيف سيبتلع عون كل الكلام التحريضي الذي كان يكيله ويطلقه يمنة ويسرة على امتداد السنوات الماضية فيصيب طوائف وجماعات وشعوباً واعلاماً وافراداً ولاجئين. هناك من يعتقد أن عون رئيسا للجمهورية سيبذل جهداً لتفادي ما ارتكب، فهل حقاً سيفعل ذلك.

الأرجح أننا سنكون في الأيام المقبلة جمهوراً مجبراً على متابعة مبارزات خطابية وكلامية ومحاولات لتفادي الأفخاخ مرحلياً على الأقل. لكن من السذاجة أن نقفز فوق تجارب الماضي ومعها ما خبرناه من ممارسات السياسيين وأخلاقهم.. 

هذه جميعها لن تسمح لنا بافتراض مستقبل أفضل مع ميشال عون..

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات