سبيل النصر على مغول العصر؟

سبيل النصر على مغول العصر؟
في الوقت الذي شارفت فيه الثورة السورية على إكمال عامها السادس، تصاعدت حدة المعارك، وإرتفع منسوب القصف الجوي الهمجي الذي تقوم به روسيا ونظام الأسد، الغريب في الأمر أن القصف الممنهج يتركز في غالبه على المدنيين، ويستهدف المرافق الحيوية، ولإيكاد يمر يوم دون تسجيل مجزرة وخاصة في محافظتي حلب وإدلب، وعلى مسمع ومرأى من العالم، الذي يشارك بأبشع مذبحة عرفها التاريخ.

تدخل المجتمع الدولي في الأزمة السورية، كان لصالح نظام الأسد، لكنه وفي نفس الوقت لم يقدم أي شكل من أشكال الحماية للمدنيين، حجتهم في ذلك الخشية من سقوط النظام، والفراغ الذي سيخلفه، خاصة في ظل إنعدام الثقة بالمعارضة، التي لم تستطع أن تكون ممثلا حقيقيا للشعب السوري، كونه قد لفظها، فلاهي نالت ثقة الشعب ولا حتى المجتمع الدولي، ولعل السبب في ذلك يعود إلى النوعية السيئة من الأشخاص الذين تم إختيارهم كممثلين للثورة.

غياب الشخصيات الوطنية والإسلامية الموثوقة وذات الكاريزما الشعبية المؤثرة، أسهم في تشتيت وضياع القرار الثوري، الذي إنحصر بيد ثلة من الباحثين عن المناصب والثروة أو المتعيشين على الأزمة من الذين لا حيلة لهم، أو أولئك المتحزبين والمحسوبين على فصائل بعينها، فباتت الهيئات والمنظمات والمؤسسات الممولة دولياً وإقليمياً، عبارة عن أدوات تحت الطلب، حتى الدينية منها كالمجلس الإسلامي السوري، فإن وجوده رمزي ينحصر فقط في تقديم الفتاوى بجواز المفاوضات، والحرب على هذا الفصيل أو ذاك.

مع إنطلاق الثورة المسلحة أواخر العام 2011 وبدايات العام 2012، تشكلت أولى كتائب الجيش الحر، بمجهود ثوري سوري شبه فردي، فحققت هذه الكتائب إنجازات كادت تنجح في إسقاط منظومتي الحكم العسكرية – الأمنية، التي بان عوارها، وظهر عجزها أمام هذه الثلة من أحرار سورية، فكان النظام لا يستطيع تحريك الكثير من قطعاته، ولا فتح أكثر من جبهة في آن واحد، همّه حماية العاصمة ومراكز المدن، أما أحد أهم أسباب عدم تحريك العديد من قطعات الجيش، فكان الخشية من إنقلاب عسكري تنفذه إحدى التشكيلات التي يقودها ضباط سنة، حتى إن الأمر قد وصل به حد تجريد وحدات كاملة من الجيش النظامي من أسلحتها، وإبقائها رهينة قطعاتها.

تطورت كتائب الجيش الحر فأصبحت ألوية، وفرق، وفيالق، وجيوش، وحركات، وجبهات، فزاد عديدها ونمت عدتها، وامتلكت السلاح المتوسط والثقيل، وبات لها شرعيون ومرجعيات محلية وإقليمية ودولية، وإنتظم معظمها بغرف عمليات كـ "الموم" في الشمال و"الموك" في الجنوب، وهي غرف تقدم لهذه الفصائل، الدعم المالي والعسكري وتوجهها، وتتحكم بمسألة فتح أو وقف المعارك التي يتم تذخيرها حسب الحاجة، فتحول قادة هذه الفصائل إلى زعماء وإقطاعيين، لكل منهم أتباعه ومريدوه، من إعلامين ومروجين، وشرعيين، وحتى سياسيين، فأغرقوا الثورة في مستنقع التبعية الآسن، الذي سببته الفصائلية والمناطقية والعشائرية وحب السلطة والمال، وهو ما أطال أمد الأزمة التي قد تمتد لسنين عديدة، إذا ما بقي الحال على ماهو عليه!

ما أشبه اليوم بالأمس، فحال الشام اليوم لا يختلف كثيرا عن حالها أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن الهجري، (الثالث عشر والرابع عشر ميلادي)، بُعيّد القضاء على الخلافة العباسية وظهور الإمارات والممالك، التي تصارعت على السلطة، فكان الأمير ينصّبُ صباحا ويخلع مساء، فانعدم الأمن وعمت الفوضى وساد الفساد والجهل وإنتشرت البدع، وتقاليد وعادات، وطقوس وأعراف، جلبتها القوميَّات التي هَجَّرها رعبُ المغول عن أوطانها، أو تلك التي جلبها الوجود الصليبي للفرنجة في الشام، فتركيبة المجتمع في عهد الأيوبيين والمماليك في الشام ومصر، كانت خليطاً من الأجناس والأعراق والطوائف، متعددة المللِ والنِحل، فانتشرت الفواحش والموبقات، وكثر الغدر والخيانة، وعاد الشرك طقوساً تمارس، وشاع التعصب للمذهب والقبيلة، وإنتشر التصوف، حتى بين الحكام وكبار العلماء، وغلبت الفلسفة اليونانية على الدين، ودب الوهن في الأجساد، وسيطر الجبن والخوف على العقول والقلوب، فوصل حداً إستبيحت به بيضة الأمة، فكثر الطامعون من مغول فرس، وفرنجة وتركمان وأرمن، عاثوا في الأرض فساداً.

أوليس في واقعنا اليوم ما يشبه أمس أمتنا، مع فارق أنه لا وجود لعالم رباني، يجدد الدين ويتقدم الصفوف ويأخذ بيد الناس ويحضهم على وحدة الكلمة وإخلاص النية، ومقارعة الأعداء؟

في هذا الوقت العصيب من تاريخ الأمة، التي إبتليت بشتى أنواع الفتن فزلزلت زلزالاً شديداً، ولد ونشأ شيخ الإسلام الإمام "تقي الدين أحمد إبن تيمية"، لأب عالم فورث عنه العلم الشرعي، لكنه شب على حسرة وألم، كيف لا، والمسلمون يهانون وتستباح حرماتهم، ولا سيادة على أرضهم إلا للمغول والفرنجة، لكنه لم يعتزل الأمة وهمومها، ولم يستسلم فيسلم بواقع الحال كما فعل ويفعل معظم الناس، فقد أدرك أن هذه الأمة لا تفنى، وأن هذا الدين لا يبلى، لكنها الفرقة والتشرذم والبعد عن كتاب الله وسنة رسوله، هو ما إستجلب الفتن والمحن، والبلاء والغلاء، وتسلط الأعداء، يكفي أن نعلم، أن البدع في عصره قد زادت فوصلت حداً، جعل العامة يعتقدون أنها من الإسلام، لهذا فقد وضع إبن تيمية نصب عينيه هدف إحياء السنة وإعادة الناس إلى دينهم القويم، فوضع الله له القبول بين الناس، وزرع محبته في قلوبهم، فأثر فيهم أيّما تأثير، وهو الفرد الذي لم يملك من السلاح سوى عقيدة قويمة قوية وبصيرة مستنيرة.

 

لم يترك شيخ الإسلام باب خيرٍ إلا وطرقه، ولا دربا يلم الشمل إلا وسار فيه، فأعطى الدروس وألقى الخطب، حرض الأمة ونصح القادة والحكام، ونجح في دفع تجار دمشق للتبرع من أجل تجهيز جيش الشام ومصر، الذي كان له الفضل في لم شمله، وبجهد يكاد يكون فردياً، إستطاع من خلاله إدارة دفة الأحداث بل وصنعها. لقد كان إبن تيمة يرحمه الله أمة في رجل.  

يقول إبن تيمية مخاطبا الناس قبل معركة شَقحّب "المرج" ضد المغول: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب (يقصد جانب العدوّ) وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، كلام صريح وفتوى أزالت الكثير من الشك عن عيون العامة والخاصة، الذين كان يخطب فيهم فيحلف قائلاً: "بالله الذي لا إله إلاَّ هو، إنَّكم منصورون عليهم في هذه المرَّة. (يقصد على المغول) فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. يقولها وهو موقن بها ثقة بالله، بعد أن إكتملت أسباب الإجابة.

 

تقدم شيخ الإسلام الناس في المعارك، بل سبقهم إليها ولم يتخلف كما هو حال السواد الأعظم من المشايخ والشرعيين، وأفتى الناسَ بالفطر طيلة مدّة قتالهم، فأفطر ثم جال بين الصفوف وبيده شيئ من طعام يأكله، ليعلِمهم أنَّ إفطارهم في المعركة خير من صيامهم.

وُشِيَ به إلى السلطان الناصر محمد، فأحضره وقال: بلغني أن الناس أطاعتك، وأن في نفسك أخذ الملك، فأجابه بنفس مطمئنة: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسين، فتبسم السلطان لجوابه ورد عليه بالقول: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك لكاذب.

ذهب لمقابلة ملك المغول "قازان" الذي كان بوذيا وأسلم، فوقف بين يده وقال للترجمان: "قل للسلطان أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون، فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجُرت. فوقع حب الشيخ في قلب السلطان، فسأل: "من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله، ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادًا لأحد منه". ثم غادر الشيخ معززا مكرمًا بفضل الله، فنال ما أراد، وكان سببًا في تخليص غالب أسرى المسلمين من يد المغول.

نحن أمة لا ننتصر بعدد وعدة، بل بعقيدة وإيمان، وحب موت وشهادة في سبيل الله، وليس بفتاوى فنادق الخمسة نجوم، التي تشيطن هذا الفصيل أو ذاك، وتحرض على قتال المجاهدين وسفك دمهم، ولا محاضرات في أحكام الطهارة والنفاس، ولا بنشر أذكار الصباح والمساء، أو صور "السيلفي" الجميلة على مواقع التواصل الإجتماعي، والتنافس على حصد الإعجابات وجمع جيوش المعجبين، أَما تخجلون من معممي الروافض؟ أَما ترونهم يتقدمون الصفوف على الجبهات، ويحرضون على الإنتقام ممن يسمونهم أحفاد معاوية ويزيد؟ أما علمتم أن الكنيسة الروسية قد أعلنتها حربا مقدسة علينا، ألم تدركوا بعد أننا أمام حرب تستهدف وجودنا وعقيدتنا؟!

نحن بحاجة إلى إمام وقائد مخلص يخشى الله، ويغار على حرمات المسلمين، وإلى عالم رباني مجدد شجاع، يجاهد بقلبه ولسانه ويده، يلُمُّ شعثَ الأمة، كما فعل "تقي الدين أحمد إبن تيمية"، فهذا هو السلاح النوعي الفتاك الذي إن إمتلكناه أمدنا الله بجنده، ونصرنا على مغول العصر، وعُدنا خير أمة أُخرجت للناس، فنحن امة لا ينصلح حالها بغير العودة إلى الله.  

التعليقات (10)

    مجنون

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    نحيي فيك الاخلاص وغيرتك على دينك و عرضك وارضك وليس لك غايه سوى رضا اللهبارك الله بك وبامثالك وهم كثر وفي كل المناطق ,اتمنى ان تجدهم و تتواصلوا معا لبدء لم الشمل وتوحيد الصفوف و تحديد الهدف وهو كيفيه الانتصار في معركه الوجود وانه لامر يبدأ بخطوه لنتقدم ان لم تخطها فسنبقى حلى حالنا وربما للوراء ايضا ،الله يحميك ويبارك فيك ويعينك آمين

    خالد زعرور

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    هذا هو الجواب الكافي ونهاية النقاش فيما يخص أسباب انهيار الامة وتجمع الصفويين والمغول الجدد والصليبين

    خالد زعرور

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    هذا هو الجواب الكافي ونهاية النقاش فيما يخص أسباب انهيار الامة وتجمع الصفويين والمغول الجدد والصليبين

    77

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    صدقت كلامك رائع

    محمد الحٌصان

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    احسنت وجزاك الله خيرا

    خالد أحمد

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    جزيل الشكر للكاتب خليل المقداد على نفوذ بصيرته و على مقالته الرائعه اللتي بنظري وضعت البلسم على الجرح. يجب علينا جميعا أن نعمل جاهدين على إيجاد هذا الامام القائد و المجاهد اللذي لم ولن تبخل أرض الشام ( بلاد الشام) به. إنه موجود و لكن بحاجه لمن يلتف من حوله و يزكيه عند العامه و الخاصه لمصلحة هذه الأمه. و شكرا

    ابوبندر

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    كلام في غاية الوضوح والبيان حاجة الامه الى عالم رباني كإبن تيميه رحمه الله

    أبو الهدى الحلبي

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    إلى متى سيظل المسلمون يبحثون وينتظرون ظهور " المخلّص " الذي يوحد الكلمة ويجدد الدين ؟! ألم يحن الوقت للبدء في بناء المؤسسات التي تفنى فيها الأسماء والمسميات ويظهر فيها العمل الجماعي ؟! مقال متناقض يدعو للعمل الجماعي وفناء المسميات والتبعيات ثم يبحث عن المخلّص الذي يقود الأمة ويجدد الدين ! الدين لا يحتاج لتجديد بقدر ماهو بحاجة إلى إعادة قراءته قراءةً معاصرة تضع التاريخ والشخصيات التاريخية جانباً وتتوجه لبناء الأمة من جديد على القيم الإنسانية والأخلاقية المجردة والتوقف عن الحلم بالعودة للماضي .

    مجنون

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    وتتوجه لبناء الأمة من جديد على القيم الإنسانية والأخلاقية المجردة .هذاكلام صحيح وهو جوهر الاسلام اما اذا كنت تقصد القيم الانسانيه والاخلاق الغربيه فانت تراى ماذا تفعل هذه الاخلاق في سوريا والعراق و دول كثيره من اجل المال فقط حتى لو كانت هذه الاموال ملطخه بدماء الانسان صدقني ايها الاخ العزيز اخلاقنا وانسانيتنا وطيبتنا وحرصنا على ارضاءهم هي سبب ضعفنا نحن بحاجه الى قائد يجمعنا ويقودنا

    عبد السلام القاسم

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    جزاك الله خيرا ورحم الله شيخ الاسلام ابن تيمية
10

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات