طالبان أفغانستان: الحصانة والعزلة وأشباه المثقفين

طالبان أفغانستان: الحصانة والعزلة وأشباه المثقفين
كثر في الأيام الأخيرة الماضية الحديث عن أفغانستان والحالة الأفغانية المعاصرة على إثر انسحاب التحالف "الصليبي الليبرالي" من أفغانستان والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت مجالات التعرض للتطورات الأفغانية المتلاحقة محل جدال وكثير من الغيبيات الفكرية والتكهنات غير المنطقية، وخاصة في الأوساط العربية المحكومة بسلسلة متصلة من الهزائم والتشتت والانتكاسات، -أو بالأحرى- بضمور فكري وتخلف حضاري استراتيجي ما يعني غياب وانعدام الرؤية، بين مؤيد عن ولاء لوصول طالبان إلى الحكم (مناصر درويش) وبين مُعادٍ لوصولها من قِبل  (أشباه مثقفين من شتى الاتجاهات) وخاصة أولئك المتلاقين ضمن مشروع حلف الأقليات، الذين يكيلون العداء يمنة ويسرة لكل ما له علاقة بالإسلام (وعندما نقول الإسلام فنحن نتحدث عن الأمة العريضة الممثلة بأهل السنة والجماعة)!

 يبدو أن الطرفين لديهم من الأحقية والمشروعية ما يكفي للدفاع عن حججهم في طريقة تعاملهم وتوجهاتهم نحو القضية الأفغانية، فلا بد لي أن أرسم مسلكا لآلية تعاطٍ منهجي وعميق لفهم ما يجري في أفغانستان وتحليله بصورة عميقة خالية من ضوضاء الأقلام الاستعراضية.. وأن أبني في ذلك على طرق عدة، مقدمة يمكن أن تكون أساساً لأي فهم عن الوضع الأفغاني.

لمحة عن الاجتماع الأفغاني

تتميز أفغانستان بطبيعة جبلية قاسية ونمط قبلي خلدوني وتنوع عرقي وازن تقوم على أساسها كل معرّفات الاجتماع داخل أفغانستان، إن أفغانستان لم تكن مركز حضارات عبر التاريخ، بقدر ما كانت جزءاً من حضارة آسيوية مفتوحة نسمّيها خراسان بالمعنى التقليدي الإسلامي أو آسيا الوسطى وحزامها بالمعنى الليبرالي، فبالتالي كل دول خراسان تقوم على مشتركات اجتماعية واحدة وهي الجبل والقبيلة والعرق، وهذه الروابط يشهد التاريخ أنها لم تتفتّت على يد الإنكليز والسوفييت وبعدهم الأمريكيون كما حصل بالمنطقة العربية مع ظهور الدول الحديثة بعد سقوط السلطنة العثمانية، أي إنّ المجتمع الأفغاني ما زال يعتنق الأعراف والتقاليد والعصبيات القبلية، وزاد ذلك مع الغزو المختلف لتطويع المنطقة، وهنا أدت العوامل الاجتماعية المختلفة دورها في تحصين وعزل المجتمع في آن معاً! سواء في المأكل أو الملبس أو المشرب أو المباح وغير المباح، وهنا نقطة الجوهر في الذاكرة التاريخية للأفغان أنهم استطاعوا الثبات في وجه الشيوعية والليبرالية ولكنهم لم يقدروا على مواصلة التحديث العصري الذي يتطلبه الواقع، فكانوا أو كوّنوا تاريخاً من الرفض والكبرياء والمقاومة النشطة في وجه قوى الاحتلال، ولم يقدروا إلى الآن على إيجاد استراتيجية للبناء والإعمار المختلف، وهذه عقبة لا ندري إن كان سيتجاوزها الأفغان الجدد، بالرغم من أن المأمول كبير جداً. وللتذكير فإن طالبان ليست حركة ولا منظمة وخطأ فادح القول بهذا، لأن طالبان عبارة عن تكتل إسلامي أخذ البيعة من جل علماء أفغانستان، فبالتالي هم الشعب ومنه وفيه، ومتفردون بالسلطة والقرار لسيطرة مرجعيتهم الحنفية على كل مفاصل القرار المتعلقة بالمجتمع، فهم جيش المجتمع الأفغاني وليسوا فصيلاً أو منظمة، بل يمكن اعتبارهم دولة شرعية مُسقَطة، وعادت مع اندحار أمريكا، بالرغم من خطورة عودة الاقتتال الداخلي القائم على نقيضي القوة والتقدم (القبلية والفقه التقليدي).

سيكولوجيا المذهب

إن ثقل الحضارة الإسلامية ومعرّفاتها الفكرية والديمغرافية والجيوسياسية كانت وما تزال تنبع من آسيا الوسطى وحزامها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أفغانستان بلد متنوع إثنياً وعرقياً ومذهبياً ويشكّل فيه المسلمون السنة أكثر من 90% من عموم مكونات المجتمع، ولكن المفارقة أنهم سنة غير السنة في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا...  فكما نعلم أن التقليد المذهبي والانتماء إلى السنة والجماعة في المنطقة العربية أصبح مُنحلاً من غير مرجعية وهذا ما يفسر ضعف السنة اليوم، بينما في أفغانستان يشكل التقليد الفقهي للإمام أبي حنيفة النعمان، قداسة تقليدية منضبطة جداً وهي ما تضفي هذا الترابط على المجتمع إضافة إلى القبلية، بالرغم من أن فقه جلّ دول المشرق، فقه حنفي، لمرونته وغزارة فقهاء المذهب في التجديد المتواصل عبر عقود، هذا الفقه الذي أقرّته السلطنة العثمانية فقهاً رسمياً للدولة الإسلامية، فبقي كما هو في آسيا المسلمة لأسباب كثيرة عرجنا على بعضها، وتماشى وتطور في آسيا العربية الغربية على أسس علمانية بحتة!  وهذا امتحان صعب للدولة الأفغانية الجديدة يتمثل في رؤيا واضحة لإنزال الفقه على الدولة والمجتمع بلا إفراط كما هو واقعها في السابق، ولا تفريط كما هو واقع الشرق الأوسط! وربما يقول قائل: يحتاج الأفغان إلى نموذج رؤية وسط بين النموذجين الإيراني والتركي، أو الماليزي والباكستاني! وهذه جميعها دول حنفية الفقه ما عدا إيران (ولاية الفقيه) التي تركت الفقه جانباً شيئاً فشيئاً مع تطور كيانها، على مبدأ (تعليق الأحكام).. -بشكل أو بآخر- يبدو أن علاقة عميقة بين الفقه الحنفي التقليدي والمجتمع القبلي الأفغاني، علاقة أدت إلى إخفاق الغزو المتكرر، وجمود الحالة الافغانية.

الجغرافيا السياسية (الجيوبولتيك):

 تعد أفغانستان من الدول الحبيسة في محيط قلب العالم (نظرية القوة البرية)، فهي ليست من دول آسيا الوسطى كما في الأدبيات الدولية المعاصرة، ولكنها من دول حزام آسيا الوسطى (آسيا المسلمة)، نبهت الحرب الباردة الولايات المتحدة الأمريكية إلى خطورة ظهور تحالف استراتيجي بين الصين وروسيا والهند، ما يعني زوال القطبية الواحدة في ذلك الوقت، إضافة إلى وجود خزان هائل من الثروات المتجددة وغير المتجددة في آسيا الوسطى، ثروات أكثر وأكبر بكثير مما يسود في أوساط العامة من أن الشرق الاوسط خزان أول لاحتياطات الطاقة وخاصة غير المتجددة، هذان العاملان اللذان سيدفعان الولايات المتحدة والتحالف الصليبي إلى غزو نقطة الارتكاز في قلب العالم (أفغانستان) للحيلولة دون ظهور شراكات استراتيجية بين الحلف الثلاثي (الهند – الصين – روسيا) على أساس ثروات وجيوستراتيجية آسيا الوسطى وحزامها، هذه المنطقة التي يسميها كبار الجغرافيين السياسيين أمثال هالفورد جون ماكيندر صاحب النظرية الشهيرة (هارتلاند)، والتي تقوم على أساس مخرجاتها الثلاثة كل محركات السياسة الخارجية الروسية والأمريكية، وليس احتلال أفغانستان إلا حيلة أميركية في خاصرة الروس كما يؤكد ذلك الجيوبولتيكي النقدي الروسي (أوليغ زوتوف)، بينما يشجع المسؤول الأمريكي المتخصص بالأديان واستراتيجيات اللبرلة (كريس سيبل)، في حوالي عام 2005 أنه آن الأوان للإدارة الأمريكية للتوقف عن التغيير والتأثير بالقوة العسكرية في أفغانستان مستشهداً بالنموذج الأمريكي الأوزبكي في بلد يشترك بكل شيء مع الشعب الأفغاني، مركزاً على العلاقات بباكستان وإمكانية السماح لإيران بامتلاك القنابل النووية، كتوازن للرعب وإيجاد بدائل للوجود العسكري الغربي ضد الحركات الإسلامية في تلك البلاد، لحرمان التحالف الثلاثي من الاستفادة من تلك الثروات، من خلال ضرب الاستقرار الداخلي للدول!

ثم لو عرجنا قليلاً على تصريحات الرئيس بايدن الأخيرة، بأن الخطر اليوم ليس من أفغانستان، بل من العراق وسوريا، فكلامه صحيح جداً جداً، لأن للعالم قلبين: آسيا الوسطى، والمنطقة الشامية (والمنطقة الشامية تتألف من دول بلاد الشام وثلثي الدولة العراقية وشبه جزيرة سيناء والحد الشمالي من المملكة السعودية والحد الجنوبي من الجمهورية التركية)، وفي الحقيقة نجد أن جميع عمليات العصف الجيوبولتيكي المدمّر تجري منذ أربعين عاماً في هذين القلبين، فالذي جرى على يد التحالف الصليبي بالشراكة مع حلف الأقليات الذي تديره ولاية الفقيه الشيعية وروسيا الأرثوذوكسية  في العراق وسوريا خلال 10 سنوات، لم يجرِ مثله في أفغانستان خلال ذات المدة! وهذا ما تؤكده كثير من الإحصائيات المعنية.

إذ تمثل المنطقة الشامية معبر الثروات والطاقة نحو دوائر التصنيع في أوروبا عدا عن ثرواتها! 

فكل أنابيب الغاز والنفط وطرق الصادرات وحزام الحرير وقدرات الخليج العربي، لا يعني فيها شيئاً تأمين مراكز الإنتاج، ما لم تؤمّن طرق الإمداد والنقل! فلا شك أن أكبر المتضررين من وصول طالبان إلى الحكم هم الهند وروسيا والصين وإيران، فالأفغان لديهم ذاكرة تاريخية مؤلمة مع هذه الدول وخاصة روسيا وإيران، ولديهم موقع استراتيجي، وثروات حقيقية كبيرة، وتسوية من أعلى إلى أسفل مع الولايات المتحدة، يمكنني القول إن طالبان ستبطش بخصومها باسم السلطة الشرعية هذه المرة، وليس كما في السابق باسم الإرهاب، ولكن بخطوات مدروسة متجاوبة نوعاً ما مع سوق العلاقات الدولية، فالمتحدثون عن انصياع الطالبان للعبة المحاور، يجهلون بكثرة أن الطالبان وليدة مجتمع صعب المراس، لفهمه يجب أن نتعمق أكثر في محاور المقال.

التعليقات (2)

    HOPE

    ·منذ سنتين 8 أشهر
    الواقع يقول ان ايران ساعدت بن لادن قادات في القاعده اللذين كانو تحت مظلة طالبان. الواقع يقول ان داعش بفكرها المتطرف صنيعة المخابرات الايرانيه وتمويلها تم بمساعدة ذراع ايران في العراق من خلال تسهيل دخولها للموصل و معسكر سبايكر وحصولها على المال والعتاد. فكيف تتضرر ايران من وصول طالبان للحكم وكلاهما يتكلمان نفس اللغه؟؟ اي تطرف اسلامي (سني اوشيعي) هدفه ضرب الاسلام السني.

    جلجامش بن اوروك

    ·منذ سنتين 8 أشهر
    اذهب وقاتل النظام
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات