انتعاش سلاح السرية: تحولان في الدبلوماسية التركية المعاصرة

انتعاش سلاح السرية: تحولان في الدبلوماسية التركية المعاصرة
تتنوع تعريفات مصطلح الدبلوماسية تنوعا واسعا، فمهما اعتقدنا أنه من تعريف ما يمكن تلخيص عمل السلك الدبلوماسي والإحاطة بسلاح الخارجية، نكن غير موفقين تماما في الحكم على هذا المصطلح الزئبقي الذي يتأثر بكل شيء ويؤثر في كل شيء أيضا.

وللتعريج على أهم مفصلين في توضيح آليات العمل الدبلوماسي المعاصر، ومحاكمة هذا السلاح الفتاك الذي تستعين به الدول لتحقيق مآربها، لا بد من مناقشة محورين رئيسين هما الدبلوماسية السرية والدبلوماسية الاقتصادية، اللذين يظهران جليا في علاقات الجمهورية التركية وبشكل واضح، بحكم التحولات الدبلوماسية العالمية وطبيعة تعقيد علاقات تركيا بالدول الأخرى والدول الأخرى بتركيا.

الدبلوماسية السرية: 

تنعم الدبلوماسية بشكل عام بسرية كبيرة عبر مر العصور وليس من الحقيقة بشيء إيجاد نوع يمكن تسميته بالدبلوماسية العلنية، لأن الدبلوماسية مهما تميزت في عالمنا المعاصر بعلنية يخيل للبسطاء أنها تلمح وتكشف سريتها، تكون الدبلوماسية على العكس تماما مما يظهره ويكشفه الدبلوماسيون وأجهزة الخارجية، ولو أنه يجب التفريق بين سرية الدبلوماسية والدبلوماسية السرية للوقوف على الثغرات الخطرة التي تنتج من الإفراط في توسع الدبلوماسية السرية، وهذا ما تجلى واضحا في سياسات الجمهورية التركية وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان، فقمة "سوتشي" الأخيرة بين بوتين والرئيس أردوغان والتي عجت الصحف وشاشات التلفزة العربية والأجنبية بسرية أجزاء واسعة منها، لم تكن دبلوماسية سرية، بل كانت سرية دبلوماسية معتادة في هذه الأوساط، وخاصة فيما يتعلق بملف الثورة السورية، فلا أنقرة غيرت واقعها ومواقفها من الشعب السوري الذي يتعرض لحملات الإبادة والتهجير، ولن تغير، ولا روسيا غيرت موقفها من حلف الأقليات الموغل في دماء الشعب السوري، ولن تغير، لتبقى مسألة هذه القمة أشبه بمعركة عض الأصابع لتحقيق كلا الطرفين مكاسب ثانوية في خضم الصراع الوجودي في سوريا والذي يرتبط به الأتراك ارتباطا أخلاقيا، وهو أمر مثير للريبة والحساسية في عالم علاقات دولية مادية، ما ينمي ظاهرة التخوف من تخلي تركيا عن التزاماتها الأخلاقية والإنسانية تجاه ملايين السوريين في شمال سوريا، بفعل الضغوطات المادية للدول الكبرى والتي تشكل هذه الضغوطات حلقة قوية يمكن تغيير مواقف وسياسات الجانب التركي من خلالها! ولا شك أن محور التحول الدبلوماسي التركي في عهد الرئيس أردوغان مرت به المنطقة سابقا في ظل الحربين العالميتين والحرب الباردة، وما زالت الدبلوماسية السرية تشكل جزءا واسعا في هيكلية الدبلوماسية بالرغم من التحولات التي جرت على السلك والتي تجلت في مؤتمرات (فرساري – سان فرانسيسكو – اتفاقية فيينا)، فما تزال الدول الكبرى ومن بينهم تركيا تتلطى بالدبلوماسية الثنائية.. المتعددة الأطراف في واقع دولي حربي لا يختلف عن بيئة ما قبل مؤتمر فرساي!

 ولعل الملف الليبي والأذربيجاني والسوري يوضح تماما خيارات تلك الدول من خلال قراءة واقع الميدان والاصطدامات، لذلك لن تتورع تركيا عن خوض مواجهة عسكرية كبرى مدروسة في شمال شرق أو غرب سوريا على طريق التزاماتها الاستراتيجية تجاه مصالحها القومية والأممية والإنسانية وخاصة في سوريا، وهو ما يدركه جيدا حلف الأقليات المدعوم روسيا ومن خلفه التحالف الصليبي الرأسمالي، فمسبار التسوية في سوريا قد يخلص إلى المواجهة العسكرية أو التسوية السياسية لصالح الشعب السوري! وفي كلا الحالين حظوظ الشعب السوري أكبر من أي وقت مضى.

الدبلوماسية الاقتصادية: 

يعتقد كثيرون أن الدبلوماسية الاقتصادية المعاصرة تحمل وجها بريئا ماديا من وجوه تحقيق المنافع المختلفة للدولة، وهي كذلك تماما، لكن يغلب عليها طابع تحقيق المصالح السياسية لصالح الطرف الاقتصادي الضعيف مقابل العقوبات الاقتصادية، وتحقيق المصالح الاستراتيجية للطرف القوي مقابل التنازلات السياسية، والتحالف الصليبي الليبرالي (الأوروبي – الأمريكي) أكثر من يجيد العمل بهذه المعادلة، بل تشكل رافعة من رافعات نفوذه العالمي في العالم، وهذا ما تجلى إبان إعلان الجيش الوطني السوري بالتحالف مع الجيش التركي، عملية "نبع السلام" في التاسع من أكتوبر عام 2019 لمواجهة الميليشيات الإرهابية الماركسية الكردية.

pyd – pkk)) فما كان من الرئيس الأميركي حينها "دونالد ترامب" إلا التلويح بعصا العقوبات الاقتصادية على الجانب التركي ما لم تلتزم نص التهديد الذي نشره موقع bbc  بتاريخ17/10/2019 وهو تحول كبير يشير إلى ظهور واسع في العقود القادمة للدبلوماسية الاقتصادية متممة لعمل الحروب الميكانيكية وليس بديلا منها، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجانب التركي توخى العقوبات حينها، ولكنه لم يتردد في جعل شبه منطقة آمنة في مناطق عملية نبع السلام، أي إن تركيا تنازلت عن جزء من قوتها الاقتصادية لصالح ضرورات استراتيجية سياسية في التحكم بمناطق في شمال سوريا وطرد ميليشيات جبال قنديل منها، في حين كانت مكاسب الطرف الأمريكي-الأوروبي اقتصادية لا استراتيجية وهو ما ليسوا بحاجة إليه بصورة دقيقة، الأمر الذي يتكرر مشابها في حادثة اعتقال أحد الأذرع الانقلابية إبان الانقلاب الأخير في تركيا وهو القس البروتستانتي الأمريكي "أندرو برونسون"، والذي تعرضت تركيا لعقوبات اقتصادية لإيقاف محاكمته بتهم الإرهاب ودعم الانقلابيين، الأمر الذي سهل على الدبلوماسية التركية التنازل عن القس مقابل مصالح سياسية أخرى لن تكون متاحة الوصول في القريب.

 اليوم تتكرر ذات الصفقة بصورة مشابهة نسبيا مع المعتقل التركي بذات التهم "عثمان كافالا" الذي انبرت العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة للمطالبة بإطلاق سراحه، وإلا التلويح بعصا العقوبات الاقتصادية، وهذه دراما دبلوماسية ليست صحيحة في شكلها الظاهر، فالأوروبيون والأمريكيون لا يعجبهم خروج تركيا عن بيت الطاعة خلال عهد أردوغان وتتضارب مصالحهم الكبرى وتصطدم بالجيوسياسية التركية، والعقوبات الاقتصادية على تركيا حتمية ولم تتوقف ولن تتوقف باعتقال كافالا ومحاكمته أو بإطلاق سراحه، فلا يبدو النهج الأوروبي الأمريكي مهتما بكافالا، ولا يبدو تصريح الرئيس أردوغان بأن عشرة سفراء أوروبيين وأمريكي غير مرغوب بهم في تركيا ردا على مطالبتهم بكافالا، بل هي معركة متجذرة طويلة ولا تحسم بهذه الدراما الدبلوماسية المعتادة، لتلوح في الأفق مظاهر صفقة مرتقبة بين الجانبين (تسوية) عنوانها كافالا ومضمونها قضايا لا يساوي فيها كافالا حبة تراب.

تحولات جذرية في الدبلوماسية العالمية

 لنؤكد أن ما يظهره السياسيون إلى العلن ليس إلا فقاعة يتناولها الصحفيون وشاشات التلفزة والنشطاء بهرج ومرج منقطع النظير وتصبح مادة دسمة للرأي العام الشعبي، والحماس الشعبوي الذي يعصف بالقاعدة من الناس، ولا شك أن الدبلوماسية العالمية اليوم تشهد تحولات جذرية تماما في نطاق الدبلوماسية السرية والدبلوماسية الاقتصادية، وهو ما أنزلناه على معرفات السلك الخارجي التركي بدالات مختصرة، للمساعدة في فهم الواقع الذي يمكن من خلاله الوصول إلى توصيات هامة بشأن ملفات مهمة كالملف السوري وغيره. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات