وفي كل الفترات، بما فيها الفترات الانتقالية للتاريخ التي تشهد صراعاً وعراكاً ومواقف متنوعة من حركة التاريخ ووقائعه، يظهر في الغالب نمط من الكتاب أسمّيهم "كتّاب الهُراء".
وكتّاب الهُراء هو ذلك الصنف من الكتَبة الذين يستعيرون فكرة من هنا وقولاً من هناك، ويقمّشونها في جمل غير مفيدة، ويتّكئون عليها مُعلنين أنهم نقاد الفكر، متطاولين جسداً وشهوة بالحضور.
((يحفظ مثقف الهراء عن ظهر قلب أقوالاً مأثورة وغير مأثورة))، ويكدّسها في عقله ويبدأ بتفريغها بمناسبة أو دون مناسبة، ومع الأيام ينسى نسبتها إلى أصحابها فيتوهّم أنها من صناعته.
أو ذلك الذي قرأ بعضاً من كتب عباقرة الغرب أو مقتطفات مما كتبوا، وراح بسبب أو دون سبب يستشهد بهم لتأكيد اطّلاعه الواسع على ثقافة الغرب، وكأن لسان حاله يقول: إن الهيبة تتطلب نسبة الأقوال إلى هؤلاء العباقرة، حتى يجري الاعتراف بتفوّق المثقف المستظهِر لأقوال الغربيين.
- أو ذلك الكاتب الذي يستخدم تلك المفاهيم الصعبة والمألوفة لدى أهل علم دون أن يكون على دراية بمعانيها وبأحكامها المضمرة فيها، فيضعها في غير موضعها، وينتقل من مفهوم إلى آخر دون أي مسوّغ فكري أو نظري أو منطقي، فلا تدري عن أي موضوع يتحدث، وما هو مضمون كلامه العَرَمرَمي.
- أو هو ذاك الذي يتحدث دفاعاً عن الوقائع التي تحتاج إلى نقد بلغة بلاغية ركيكة مبتذلة، ويجمّل القُبحَ السائد بطريقة لا خجل فيها إطلاقاً.
أو هو ذلك الذي امتهن النقد الشفاهي لأصحاب الأقلام المهمومة بقضايا الإنسان وحريته، والمبدعة في الأدب والفكر، ودون أن يؤلف جملة مفيدة يمكن أن تُنسَب إليه.
- أو هو ذلك الذي يهرب من مشكلات البشر الحقيقية بحجة نقده للأيديولوجيا، ومقصود الهروب من القول الحق والنقد البنّاء والانتماء للوطن، فيتحدّث عن فقدان الأمل بالناس ويُلقي باللائمة على البسطاء، بوضعهم مسؤولين عن واقع الحال.
- أما أسوأ أنواع كتّاب الهُراء قاطبة فهم أولئك الذين يستلّون سيف النقد ليتناولوا ظاهر الوقائع ويتحاشون الاقتراب من أساسها وأسبابها، لا تقيّة أو خوفاً، بل انتماء للبنية المؤسِّسة للخراب.
وهؤلاء لم تدركهم حِرفة الكتابة أصلاً، وليسوا من أهلها، ولكن الفيسبوك، سامحه الله، حوّلهم بقدرة قادر من أكاديميين كُسالى منتمين إلى البنية إلى كتَبة يحضرون في نقد أزمة الخبز والمازوت وما شابه ذلك، أو أولئك الذين يتوسّلون الفيسبوك ليقولوا قولاً ممجوجاً ثقيل الظل حول وقائع لا قيمة لها.
إنّ أي نقد، يصدر عمن يكتبون من خارج المكان الخطر، ولا يتناول نقد البنية، هو نقد كذابين في حقيقتهم. أي نقد لا يتناول بالفهم والتحليل العصبية الطائفية المسؤولة عن الدمار في سوريا، وظيفتها بالقوى المهيمنة عالمياً ليس نقداً، إنه هُراء، لا يتناول الميليشيات الطائفية وإيران، نقد يهرب من الحقيقة، أيّ نقد دافعه إصلاح الخراب الذي لا يمكن إصلاحه، هو نقد المنتمين إلى الخراب.
الكاتب الجذري ليس الكاتب الذي يتوسّل الشتيمة خطاباً، بل الذي يحفر وراء الظواهر ليكشف أعماقها. وكل بديل لا يستند إلى قطيعة تاريخية مع البنية المسؤولة عن الخراب ليس بديلاً.
هذا الهرّاء يتوارى خلف لغة ميتة باردة وقورة يفوح منها خبث الرياء والخداع. أي نقد من كائن احتفظ بروح العبودية التي ولدته ليس بمقدوره أن ينطق بكلمة لا للأصفاد التي أدمن العيش فيها.
ألا فاعلموا.
التعليقات (2)