السوريون في ضوء علم النفس والشخصية.. تحديات التكيف أم البقاء؟

إن الظروف التي تعيشها البلاد، وتمر بها الأوطان والتي تضغط بكل ما لديها من قوة على المجتمعات والأفراد، وبكل أشكال الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية؛ ستترك آثارها السوداء دون شك  على الصحة النفسية للفرد، وقد تتحول عند بعضهم إلى درجة المرض النفسي أو العقد النفسية التي سيعاني منها ضحايا الحروب والأنظمة الاستبدادية.. وليس مثل السوريين معاناة في هذا السياق. 

اختلافات جيدة ونظريات مختلفة!

 

    من الأمانة المعرفية والعلمية القول إنه في هذه الموضوعات توجد إبداعات جديدة، فكل يوم نجد نظرية جديدة أو رأياً جديداً، وهذا لا يُعيب علم النفس بشيء، وخصوصاً أنه من العلوم الحديثة، فطبيعي أن يكون متجدداً، ومرتبطاً بعلوم أخرى لا غنى له عنها، وهي لا تستغني عنه كعلم الجملة العصبية، والفيزيولوجية، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، والفلسفة، و.. و.. و.. ومن الطبيعي أن  توجد أيضاً في هذا العلم والذي هو كالبحر باتساعه وعمقه، وهدوئه وهيجانه، وبه ما هو مستور يحتاج الكثير من الجهد لسبر أعماقه، ومعرفة تفاصيله، ومع تطور الأدوات والتكنولوجيا التي ساعدت هذا العلم على وضع أسسه ونظرياته وأبحاثه، ومع ذلك ما زال يحتاج لتطور أكثر فأكثر، نعم من الطبيعي أن توجد اختلافات جدية، ونظريات وفروض مختلفة، كما إن هذا الغنى والتنوع يعود إلى أن  موضوعات هذا العلم على درجة عالية من الأهمية، فهي تتعلق بحياة الفرد والمجتمع، وهي موضوعات شائكة وملامسة للواقع في ماضيه وحاضره ومستقبله، فلا عجب أن تتعدد الآراء والنظريات، يضاف إلى ذلك أن الواقع غني وقد لا يتوافق تماماً مع ما هو نظري، خصوصاً أن المتغيرات في الواقع غنية ومتسارعة ومتعددة الاتجاهات. ومن أهم مبادئ التعامل مع هذا العلم أن نتسلح بالفكر النقدي، ونحتكم دائماً إلى ما تثبته التجربة والملاحظة. وأن لا نأخذ التعريفات والمفاهيم والمصطلحات، حتى بعض النظريات والنتائج بأنها نهائية وكاملة وتامة؛ بل إن هذه وتلك متطورة ومتحركة، وليست ساكنة ثابتة شأنها شأن الحياة نفسها، فهي في صيرورة دائمة. 

أسئلة الصحة وعلامات المرض النفسي

إذا كانت الصحة النفسية هي "التوافق مع المجتمع"، فلا اعتراض على هذا التعريف من حيث إسقاطاته على عموم الناس، وإن كنت أقرب للقول إنه ليس صحيحاً بالمطلق، لنقارب هذا التعريف مع السؤال التالي:

المبدعون والمصلحون والثوار والأنبياء هل ينطبق عليهم التعريف السابق؟ وهل هم فاقدو الصحة النفسية لأنهم يخالفون المتعارف عليه والسائد في المجتمع؟ وهم غير متوافقين وغير متفاهمين مع واقعهم، فهل نستثنيهم من التعريف فلا نقول عنهم إنهم مصابون بلوثة مرض نفسي ما، مع شعورنا الذي لا يطاله الشك أنهم متميزون ومختلفون. 

التعريف السابق يعني التوافق والانسجام، وهذا قد يعيق التطور والتقدم والإبداع، ومن ميزات ومبادئ الصحة النفسية قدرة الإنسان على التطور، والتقدم والنمو، بينما من مظاهر المرض النفسي عدم التطور بما يتناسب مع مرحلة النمو، مثلاً: الراشد الذي ما زال يسلك سلوك المراهقين أو سلوك الأطفال.

لذلك هل يمكن أن نقول الصحة النفسية: هي توافق أحوال النفس الثلاث، حالة الأبوة، وحالة الطفولة، وحالة الراشد، والشخص السليم نفسياً يعيش في تناغم وانسجام بين هذه الحالات دون طغيان إحداها على الأخرى، أو نستفيد من نظرية مدرسة التحليل النفسي وزعيمها الدكتور سيغموند فرويد بتنظيم عمل جوانب النشاط النفسي الثلاث المعبر عن الصحة النفسية، أي الهو والأنا الأعلى والأنا؟ 

القدرة على الحب والعمل! 

والمحرك الأساسي لسلوكنا اللبيدو، وهو عند (فرويد) طاقة حيوية جنسية تستند على دوافع لا شعورية حيوانية بدائية، أو نقتنع مع (إدلر) بأن نجاحنا وتفوقنا سببه إرادة القوة التي تعبر عن الشعور بالنقص وتأكيد الذات بالنجاح تعويضاً لشعورنا بضعفنا، أو نتفق مع يونغ بأن يحرك سلوكنا نوعي اللا شعور، اللا شعور الجمعي وهو المتوارث من سلسلة الأجيال السابقة، واللاشعور الشخصي الخاص بالفرد ذاته، واللبيدو عنده ليس طاقة حيوية جنسية بل طاقة حيوية عامة. 

  من التعريفات المهمة، (الصحة النفسية هي القدرة على الحب والعمل). والحب هنا، المقصود حب الفرد لنفسه، لكنه بعيد عن الأنانية المفرطة، والنرجسية، والحب هو حب الآخرين أي الأثرة والإيثار، فيكون المرض النفسي هو كراهية الذات أو الآخرين أوكليهما معاً، أو طغيان أحداهما على الآخر، ومن الجدير قوله هنا: إن التوافق الاجتماعي (التكيف الاجتماعي) والتكيف الشخصي (أي قبول الإنسان لذاته) هي من المؤشرات الواقعية للصحة النفسية.  

   

النفس المطمئنة والنفس اللواّمة! 

نعود لرأي (سيغموند فرويد)، وجوانب النشاط النفسي للشخصية:

   الهو: وهو جزء فطري غريزي يتعلق بالدوافع الحيوية والغرائز البدائية، وهو جانب لا شعوري. 

  الأنا الأعلى: وهو جزء مكتسب من البيئة الخارجية (المجتمع وعاداته وتقاليده وقيمه. (الوعي الجمعي) أو (الضمير الجمعي) وهو جانب لا شعوري أيضاً.  

   الأنا: وهو الشعور بالشخصية، وارتباطها بالواقع وانفصالها عن الهو، وهو جانب شعوري.  

  والسؤال هنا وهو سؤال مفتوح: ما علاقة هذه الجوانب عند (فرويد) فيما يسمى في معارفنا الإسلامية أو ثقافتنا الدينية  بـ "النفس المطمئنة"، و"النفس اللوامة"، و"النفس الأمّارة بالسوء"؟ قد تكون النفس المطمئنة هي الأنا، والنفس اللوامة هي الأنا الأعلى، والنفس الأمارة بالسوء هي الهو.  

سؤال يقتحم موضوعنا بجرأة وبإلحاح: هل للعوامل الوراثية (الجينات) دور في السمات الشخصية؟ لا بد من القول: إن الوراثة ركن أساسي في تكوين الشخصية، لكن بعض العوامل الوراثية لا تبقى ثابتة بل تتفاعل مع البيئة (الاجتماعية والطبيعية) وتتأثر بها. 

 مثال: الذكاء استعداد فطري (وراثي) لكنه يتأثر بالبيئة، فإذا نما في بيئة جيدة نبغ الذكاء، وإذا لم تتوفر له البيئة المناسبة طُمس.  

   هذا يقودنا للقول: يجب الانتباه للعوامل الوراثية التي تتأثر بالبيئة للعمل على تطويرها وإعطائها البعد المناسب للشخصية الناجحة. وهذا  لا يلغي أن هناك صفات وراثية لا تتأثر بالبيئة كلون العيون. 

هل أنت ضعيف.. أم قوي الشخصية؟    

كل منا يعاني من مشكلات وعقد وأمراض نفسية، والاختلاف في درجة هذه المشكلة أو درجة هذه العقدة  النفسية. ويتعلق ذلك بأهم سمتين متناقضتين للشخصية ألا وهما شخصية قوية أو شخصية ضعيفة. لا تحتار بتقييم شخصيتك، ولا تدخل بامتحان ذاتك ببساطة وواقعية، وبتفاؤل المجتهد، اطرح على نفسك السؤال التالي: هل أنت بصحة نفسية جيدة؟ إذاً أنت شخصية قوية.        

       

صحيح اختلفت الآراء حول من هو قوي الشخصية، وكل منا يحب أن يقال عنه، إنّه شخصيته قوية.. ولكن، ما هو  المعنى الحقيقي لقوة الشخصية؟

بعض الناس يعتبر قوة الشخصية بأنها القدرة و السيطرة على الآخرين. لنفكر قليلاً: هل المدرس الذي يرتعد منه الطلبة، ويضبط الفصل بالتهديد والوعيد قوي الشخصية؟ وهل كل من يفرض رأيه على الآخرين يُعتبر قوي الشخصية؟ 

  أعتقد أن الشخصية المسيطرة التي لا يُرفض لها طلب قد لا تعتبر شخصية قوية، والسيطرة بالتخويف والترهيب لا يعني أبداً أنها ناتجة عن شخصية قوية وسليمة. فمثلاً: المدرس قد يضبط الفصل لأنه يهدد الطلبة ويضربهم، وقد تجد نفس هذا المدرس يقف خائفاً مرتعداً جباناً ضعيفاً أمام المدير أو الوزير، لذلك لا يمكن اعتباره قوي الشخصية.

 آخرون يَعتبرون أن صاحب الشخصية القوية ذلك الذي يستطيع كسب المال أكثر من غيره، ويصل بذلك إلى مكانة اجتماعية متميزة، على مبدأ لا أخلاقي الغاية تُبرر الوسيلة ضاربين عرض الحائط بمبدأ الغايات النبيلة نتيجة لوسائل نبيلة، والخطورة الأخلاقية في ذلك الوجه السلبي، والمؤثر الذي يجب الانتباه إليه فهو يضمر في طياته اتهام الشرفاء بأنهم ضعاف الشخصية، لذلك لا يمكن القبول به، كما إنه يشجع على الوصولية والانتهازية، والأخذ بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وبعضهم يعتبر الشخصية القوية بأنها الشخصية التي تستطيع أن تتصرف بنجاح في المواقف المختلفة، والواقع إن التصرف الناجح قد يكون غير أخلاقي في بعض الأحيان، فقد ينجح التاجر مثلاً في تجارته نجاحاً كبيراً بسبب اعتماده على الغش والكذب والاحتكار كوسيلة لتصريف تجارته، ويصبح هذا التعريف غير مقبول. 

هل يمكن أن نتفق على التعريف التالي؟

 الشخصية القوية.. هي الشخصية التي تستمر في النمو والتطور والقدرة على التكيّف. وبناءً عليه يكون صاحب العقلية المتحجرة ضعيف الشخصية بالضرورة، ومن لا يستفيد من وقته وصحته وإمكانياته ضعيف الشخصية أيضاً، ومن لا يعدل من سلوكه ويقلع عن أخطائه يكون أيضاً ضعيف الشخصية.   

 ومن الجدير قوله: قوة الشخصية تعني أيضاً القدرة على الاختيار السليم، والتمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وإدراك الواقع الحاضر، وتوقع المستقبل. وهي كلها سمات تحتاج لحياة طبيعية لاختبارها، غير الحياة التي يعيشها السوريون اليوم، والتي تبدو بيئة خصبة لكل الأمراض النفسية.. ولاختبار مدى قدرة الإنسان السوري على البقاء.. ولهذا يمكننا القول:

لكي تكون شخصيتك قوية ومثمرة، وفي الوقت نفسه، واقعية وموضوعية اعتمد التفكير النقدي، وتميّز، بالقدرة على التكيف والانسجام، وبذلك تكون شخصية ناجحة وقوية وقادرة على خوض التحديات.