المشرق الإسلامي والصراع الغربي الروسي

المشرق الإسلامي والصراع الغربي الروسي

تختلف من عصر إلى آخر طبيعة الأزمات، ويغلب على المجتمعات المتأخرة التي لا تجد تفسيرا مقنعا وواقعيا لأي صراع، أن تتمسح بالتاريخ وتلصق المصطلحات الغابرة والمعاصرة في علم السياسة بكل تفاصيل الصراع، فنكون أمام قدر هائل من التاريخ لا الواقع، والمفاهيم لا النتائج، والمخاوف لا المصالح، لكل جهة على حدة.


هذه ملامح قراءة العالم العربي للصراع الناشئ بين الغرب وأوكرانيا من جهة وبين الروس وبقايا الشرق من جهة أخرى، في حين تتبدل جغرافيا العالم السياسية آلاف المرات خلال عقود، تظل كتب السياسة في العالم العربي متوارثة وتقليدية إلى حد الجنون وكأن السياسة في مناهج المجتمعات العربية عبارة عن علم رياضي بأركان ونتائج يقينية ثابتة.

هل تسعى روسيا إلى إيجاد إمبراطورية جديدة؟


لا شك أن حدود العالم القديم (الإمبراطوري) مناطق شرخ جيوبولتيكي وخطوط تماس بالرغم من تفتت الإمبراطوريات وظهور عشرات الدول الحديثة في هذه المنطقة، وهذا يعود إلى نعمة ونقمة الهوية الطبيعية التي يتمتع بها البشر في ذاكرتهم الفردية والجمعية، غير أن الهوية الثقافية المعاصرة بدأت تتفوق على الطبيعية في كثير من وقائع المجتمعات، وهذا ما أشار إليه فوكوياما في نهاية العالم، والتي ما زالت نظرتنا إليها نظرة بدائية، فانتصار الديمقراطية -وإن لم يكن حلا نهائيا- كبير وساحق ونتائجه كثيرة جدا ولعل أبرزها زوال الإمبراطوريات والقطبية العالمية، فالذي يعده اليوم اليساريون العرب وأنصار الولي الفقيه من طبقة المثقفين الساذجين انتصار روسيا في أوكرانيا على القطبية الأمريكية والديمقراطيات، إنما هي (التحركات الروسية) في الحقيقة نتاج طبيعي لما أراده فوكوياما، فجرأة الروس والشرق على الغرب دليل على خطا الأقوال والشعارات التي يرفعها اليسار وإيران في وجه أمريكا، ودليل إضافي أكبر أن كل قوى العالم الكبرى لا تستطيع أن تضم شبرا واحدا من الأقاليم والبلاد التي تحتلها أو تنهب ثرواتها أو تدخلها بذريعة الأمن القومي، وهذا جلي في تصرفات دول العالم، ما يعني رسوخ الديمقراطيات وإيجادها تحولا كبيرا في السياسة الخارجية لكل دول العالم، بغض النظر عن سلبيات واختراق الديمقراطيات واحتماء كثير من السياسات الفاسدة بها. إذن، الروس لا يقدرون على استعادة الإمبراطورية، بقدر ما يقدرون على إيجاد متنفس لهم بإنشاء ناتو أرثوذوكسي شيوعي، ناتو متواضع جدا يمكنهم من رعاية أمنهم القومي المتصدع أمام الديمقراطيات التي حطمت الاتحاد السوفييتي سابقا وقد تحطم روسيا الحالية وتجزئها حاليا، بوتين يستبق هذا المصير المدوي لبقايا إمبراطورتيه من خلال سياسة الظهور بمظهر الدب السياسي والعسكري ذي الضربة العشواء.

 

طبيعية التحركات الروسية وإستراتيجية العمل


أريد في هذه الفقرة أن أبتعد عن التقعر ومصطلحات السياسة، فالوعي السياسي مطلب وحاجة إلى كل القراء، وليس حكرا على المتخصصين، لذلك سأبني في التوصيف على مثل إنكليزي شهير (كيف تأكل فيلا؟.. قضمة في كل مرة!). تتلخص السياسة الخارجية للروس منذ عقود في صراعها مع الأوروبيين (العالم البروتستانتي والكاثوليكي، والأرثوذوكسي الذي يدور في فلك الغرب) في محاولات القضم البطيئة بدوافع أمنية قومية واقتصادية وبمحرك إمبراطوري طبيعي جدا، ففي أوكرانيا بدأ القضم من شبه جزيرة القرم إلى إقليمي لوغانسك ودونيتسك وليس انتهاء بمحاولة غزو شامل لأوكرانيا، والرهان هنا ليس في عملية القضم والعجرفة الروسية، بل على عملية المضغ، فالروس لا يمتلكون مقومات حقيقية لمضغ الجغرافيا التي يسيطرون عليها ولا من أي ناحية، وهذا ما يفسر برودة الغرب في مواجهة المصالح الروسية في أوكرانيا، لنكون أمام استشراف مبكر لنهايات الصراع كيف ستكون! إذ إن الروس مكاسبهم الطبيعية قليلة جدا، وهم والغرب يدركون ذلك، فمن هنا يسعى بوتين إلى فرض نفسه وإيجاد دبلوماسية قسرية مع الغرب ليحقق أكبر قدر من المصالح الاقتصادية والقومية لدولته في أكثر من مكان في العالم وليس في أوكرانيا فقط، وهذا لا يعني بالضرورة تراجع بوتين عن غزوه وطموحه في السيطرة الكاملة على أوكرانيا، بمقابل توقفه عن عجرفته المبررة وغير المبررة وتهديده للعالم الغربي بشن حرب واسعة النطاق قد تكون عالمية فيما بعد، فالحرب ليست مصلحة لروسيا ولا للغرب، ولكن مقدماتها ضرورة ليكسب الروس موطأ قدم في الساحة الأوروبية العجوز، والتي تحفظ للروس مكانتهم الدولية والإقليمية بمواجهة الجشع والنهم الغربي في ليبيا وسوريا وأواسط أفريقيا والخليج العربي وأقاصي آسيا، فالصعود الصيني المتواصل دفع الروس إلى الدخول مباشرة في مواجهة مع الأوروبيين، لكسب ود الأوروبيين قسرا ودفعهم إلى التعامل مع روسيا على أنها حائط الصد أمام النفوذ الصيني المتمدد، بمقابل زعامتها على أوروبا وإن كانت زعامة غير قطبية. وعليه تكون الحرب الأوروبية متنفسا للعالم الصيني والعالم الإسلامي حال تطورها إلى نزاع شامل، وهذا ما ستكشفه السنوات القادمة في أوروبا وليس عند جزئية أوكرانيا فقط.

 

تأثر سورية ودول الإقليم بالصراع.. 


ما يجب فهمه أن الصراع الغربي – الروسي تحوّل كبير في مسار العلاقات الدولية، وهو مقدمة التغيير في النظام العالمي الذي يتهاوى مع تتابع الصدمات المفصلية كالربيع العربي والصراع الحالي في أوروبا وكورونا وأزمة المناخ والضائقة الاقتصادية، وهذه هي الفرصة التي يجب اقتناصها في المنطقة الإسلامية لتصحيح المسار الجيوسياسي لدول الإقليم المسلمة ليتناسب مع طبيعة التحديات الكبرى، كي لا تكون المنطقة بأكملها أمام سايكس بيكو جديد، ولمحاولة الخروج من حالة المفعول به إلى حالة المراقب الصاعد،
تتميز منطقة الشرق الأوسط بمكانة جيوسياسية بالغة بين مناطق النفوذ العالمي وهي (المشرق الإسلامي) قوة صاعدة بطبيعة الحال، لها قلب وأركان أربعة، والقلب الجغرافي والديمغرافي هو بلاد الشام وأجزاء واسعة من العراق وشبه جزيرة سيناء وهي ما أسميه "المنطقة الشامية" أو "قلب الأرض الإلهي"، على غرار قلب الأرض الطبيعي وفق نظرية ماكيندر، أما الأركان أو الأوتاد الأربعة فهي (تركيا والمملكة العربية السعودية ومصر وإيران) مع ملاحظة أن إيران ليست دولة تماس أو مواجهة فأمامها آسيا المسلمة، ولكنها قوة إقليمية بطبيعة الحال!
من هنا تنبع أهمية منطقة قلب الأرض (المنطقة الشامية)، فجميع القوى التي تود فرض نفسها على دول الأركان أو الأوتاد، لا تدخل في مواجهة مباشرة معها، بل تغزو منطقة دول القلب، لتتحكم بعقدة مواصلات وظهر هذه الدول، فتصبح دول الأركان مكشوفة أمام التسويات الدولية والضغط الهائل، ومنطقة دول القلب منطقة ديمغرافية كثيفة تصل إلى أكثر من 75 مليون نسمة وذات بعد اقتصادي كبير وعقدة مواصلات دولية، وهي منطقة يفترض أنها مركز محمي من جوانبها الأربعة ومحج للقوى الكبرى في العالم. أي إن ظهور هذه الدولة سيمهد لقوة عالمية بالاستناد إلى أركانها الأربعة، قوة تتفوق على أركانها، وتشكل مع أركانها وحشا يتوسط القارات! فالطريق البرية إلى مصر تخرج من منطقة المركز، ومثلها إلى السعودية، أما من ناحية خراسان والأناضول فالمنطقة الشامية تمثل فك الكماشة الآخر، وهذا من نراه اليوم بحق تركيا، فتركيا أصبحت بين فكي كماشة (من القامشلي إلى اللاذقية، ومن روسيا إلى أوكرانيا) وهذا ما يفسر التردد التركي إزاء الأزمة الأوروبية، فلا تركيا تغلق مضائقها أمام السفن الحربية الروسية، ولا هي تحجم عن انتقاد الغزو الروسي لأوكرانيا، فتركيا تأخذ حذرها الشديد بالتقليل من الاستناد إلى الناتو، فلا ننسى في سوريا وشبه جزيرة القرم لم يتدخل الناتو إلى جانبها بمواجهة روسيا، وعن إيران فالقصور الإستراتيجي واضح منذ عقود ،وخاصة مع ما تفعله في العراق وسوريا وغيرهما وذلك بوقوفها مباشرة مع الأمريكيين في العراق وروسيا في سوريا، فهي تبحث عن ذاتها البسيطة متجاهلة مخاطر سياساتها على أمنها القومي، فنجدها في ود مباشر مع الغرب لإتمام اتفاقها النووي، فلا هي تنتقد الغزو الروسي بصورة مباشرة، ولا هي تكف عن مغازلة الغرب من خلال بيانات الخارجيات التي تتبع لها كالخارجية اللبنانية، فإيران مستعدة لأن تكون أي شيء مقابل عدم تعرضها لضربات أو غزو غربي، فهي تدرك أنها في عنق زجاجة الممكن، ولم يبق لديها أوراق لتفاوض الغرب أو بالأحرى لقد أحرقت كل شيء حتى البحر المتوسط طائفيا وقوميا وإرهابا وقتلا وخرابا، إذ لم يعد في هذه الدول ما يمكن المقايضة به.

 

ما ندعو إليه في الوقت الراهن


تحولات كبرى في النظام الدولي، بالتوازي مع ما يقلل حدة المواجهة بين العالم الإسلامي والقوى الكبرى لانشغالها بصراعاتها، مع ملاحظة القصور الجيوسياسي في رؤية كل دول المنطقة المسلمة، ما يعني عدم قدرة إحداهن على المسير منفردة في الظلمة الدولية القادمة، وأيضا نلاحظ منذ عقود وجودا كثيفا للقوى الكبرى في المنطقة الشامية وأبرزها في العراق وسوريا وفلسطين، تفتيتا وتشريدا وقتلا وخرابا لا مثيل له، يهلك القلب، ويناوش الأركان القاصرة إستراتيجيا، فمن هذه النقاط يجب إيجاد تكامل يخلص منطقة القلب من مآسيها بإخراج القوى الكبرى منها والتمهيد للدولة القوية، ويحفظ قوى الأركان في خطوطها الخلفية، وهذا لن يتم إلا بإعادة مصر إلى التمتع بقوتها وحظها الفاعل في قضايا المنطقة، وكذلك ترويض النظام الإيراني ليتماشى مع الأهداف على المدى البعيد، فلا بد من تكامل أمني واقتصادي وعسكري وعقائدي وجيوسياسي لبّه الأمن القومي الحقيقي البعيد عن الخصومة غير المبررة تقوده المملكة السعودية برفقة تركيا، والتأخير في تنظيف العراق وسوريا وإنقاذ الفلسطينيين يعني الانحدار نحو الأسفل المدوي على جميع شعوب المنطقة كلها بلا استثناء.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات