كتب أرّخت للثورة-7 (الجانب الصامت من المأساة) لماهر شرف الدين: صور شخصية لكنها تؤرَخ

كتب أرّخت للثورة-7 (الجانب الصامت من المأساة) لماهر شرف الدين: صور شخصية لكنها تؤرَخ

في الحلقة الأخيرة من سلسلة (كتب أرخت للثورة) التي حاولنا تقصي فيها صورة الثورة في المكتبة العربية بعد أكثر من عقد كامل على اندلاعها، نتوقف عند كتاب (الجانب الصامت من المأساة) لماهر شرف الدين… لنقدم جانبا آخر من التوثيق لوجوه الثورة وأحداثها، الذي نأمل أن يتواصل ليكون رسالة للأجيال القادمة ممن عاصروا الثورة وعاشوا أحداثها.

 

من السهل جدا التأريخ للثورات من خلال الأحداث والمعارك ورصد أعداد الشهداء والقتلى، وتتبع أخبار المجازر وطلعات القصف المدفعي أو الجوي/ ومماحكات الجولات السياسية والمفاوضات العقيمة أو غير العقيمة وسمسرة السياسيين الأمعات والفاسدين.. فهذا أمر معتاد ومألوف، لأنه يشكل النمط الشائع للتأريخ.. لكن من الصعب حقاً أن نقترب من المآسي الصغيرة التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من مسار الثورة، وخصوصاً إذا ما كانت ثورة تواجه نظاماً جمع كل قذارة ووحشية الأنظمة الشمولية في العالم وانحطاطها. وعادة ما تترك مهمة تأريخ مثل هذه المآسي للأدب وكتّاب القصص والروايات والمسرحيات، أو حتى لكتّاب الأعمال الدرامية التلفزيونية وهم أقل ثقافة وموهبة عادة..  وجميعهم يمكن أن يستوحوا ويستلهموا هذه المآسي ويبرزوا المعاناة الحقيقية للناس البسطاء أو المجهولين، وإن كانوا لن يلتزموا بأساسيات التوثيق.. بل سيتحررون منه على الأغلب، وستختلط الواقعة بخيال الكاتب أو الأديب والسياق الأدبي الذي سيوفره، كي ينتج عملاً ليس هو الحقيقة ذاتها، وإن كان ينتمي إليها بالطبع. 

الشاعر ماهر شرف الدين لم يشأ أن يترك هذه المهمة للأدب على ما يعانيه من خفة واستسهال هذه الأيام.. واستطاع أن يجعلها حالة تكتب في مقالات صحفية بقلم رشيق وممتلئ بالإحساس، ثم تجمع لتصدر في كتاب، فكان كتابه (الجانب الصامت من المأساة) الصادر عن منشورات ماهر شرف الدين (2021)، والذي يدرك فيه هذه الحالة، أي توثيق معاناة وموت الناس البسطاء، قبل أن يشرع بها.. ولعل هذه إحدى مزايا الكتابة الجيدة لدى الأستاذ ماهر: وعي النوع والهدف قبل الشروع في رسم الطريق على الورق.. أو من خلال زوايا مقالاته على المواقع الإلكترونية. 


هكذا وفي حوالي (82) صفحة من القطع المتوسط، يقدم لنا (25) قصة خبرية.. من تلك القصص التي يمكن أن تختتم بها نشرات الأخبار، فيما لو توفر لها كاتب تقارير بارع وحساس.. لكنها في هذا الكتاب، وبسبب أن كاتبها شاعر موهوب، يستخدم رؤيته الشعرية في صياغة تفاصيل المأساة برهافة وعمق، فإنها تأخذ أبعاداً أخرى.. هي مزيج من التوثيق والتأريخ عبر صورة الحياة اليومية.  إنها – في جانب آخر- تلك القدرة على نقل اللقطة الخبرية، من سياقها المألوف والمكتظ والمستهلك، إلى سياق تراجيدي حقيقي مكتنز، يدفع القارئ إلى التأمل والتبصر، من أجل أن يزداد إيماناً وقناعة بأن هذا النظام المتوحش الفاسد يستحق مئة ثورة تقتلعه من شروشه.. لا ثورة واحدة فقط، نكّل بها سفلة العالم وتركوها للذئاب.

 

موت لا يخطر على بال 


في (مرض الاعتياد: جثث في المشرحة) يتحدث ماهر شرف الدين عن واقعة قيام إدارة المشفى الوطني في مدينة حماة بإرسال ثلاث جثث تظهر عليها آذار التعذيب إلى طلاب كلية الطب البشري لاستخدامها في دروس مادة التشريح.. وعن طالبة سورية فقدت وعيها حين فوجئت بجثة أخيها المعتقل ممدة أمامها على طاولة التشريح... 


في مقاله تفكيك سكة الحديد.. الذي يتحدث عن صورة (ينشرها) لتفكيك جبهة النصرة لسكة الحديد شمال شرق سوريا، يمكن أن نعثر على جملة استثنائية من وزن: "النظام سرق القطار، والتطرف سرق السكة"
وفي مقاله (ثلوج الأشقاء) عن مخيمات منطقة عرسال اللبنانية الغارقة في الثلوج: "متر من الثلج فوقه أمتار من اللامبالاة التي ليست إلا اسماً باهتاً للعنصرية" وبين صورتين.. يبدو الثلج في صورة اللاجئين السوريين في كندا هو ذاته لدى الأشقاء في لبنان لكن ما اختلف هو الإنسان. 


ومن حكاية سندس فتح الله النازحة السورية التي أضرمت النارَ بنفسها في مخيم الركبان الصحراوي فأحرقت جسدها وما تبقى من قصتها إلى حكاية الطفل أحمد الزعبي ابن الأربعة عشر عاماً..  الذي كان يعمل ماسحاً للأحذية في بيروت كي يعيل أسرته، قبل أن يختفي ثم ترصده إحدى كاميرات المراقبة جثة سقطت في منوَر بناء بعد مطاردة عناصر البلدية له، إلى الشبان  السبعة الذين انفجر فيهم لغم في بادية البوكمال شرق دير الزور، فوقعوا بين قتيل وجريح وهم يجمعون (الكمأة)، إلى الطفل (وائل السعود) ابن التاسعة، الذي شنق نفسه على أبواب مقبرة بسبب تعرضه للتنمر العنصري في مدرسة تركية عام 2019  إلى  حكاية الشبان الأربعة الذي وُجدوا في (جسر السيد الرئيس بدمشق) منصة للانتحار يأساً، فاستحق الجسر – كما يقول شرف الدين – لأول مرة اسمه: جسر حافظ الأسد. 


جملة من صور وبورتريهات الموت التراجيدي الذي يستحق أن يروى وأن يقرأ وأن يستعاد، يلتقطها الكاتب من مجرى سيل متدفق بآلاف الصور والدماء، كي يوثقها ويدفعنا لنتأملها بأناة.. وكي يقول لنا: هو ذا وجه آخر من تاريخ الثورة، علينا أن نهتم بكتابته ورصده.

 

صور القَتَلة وتجار المخدرات: إصرار وابتكار.


لا يهتم ماهر بصور الضحايا بل بصور القتلى. ولأنه صادق وحر فهو يحدد هوياتهم.. ويقرأ صور تفاخرهم بالجريمة وسيلفياتهم... كما في صورة سيلفي تاجر المخدرات (نوح زعيتر) أمام نصب السيف الدمشقي في ساحة الأمويين بدمشق، حيث: "سيلفي نوح زعيتر ليست سيلفي شخصية على الإطلاق، بل سيلفي وطن بأكمله" (ص (56)،  أو صورة الطيار العلوي مجد بركات الذي يعرّفه الكاتب  بأنه (ينحدر من ريف القرداحة) وينشر صورته وهو يعرض من على متن طائرته الإعلان التجاري (بهارات وحبوب) قبل قيامه بالقصف وإلقاء البراميل، معلقاً على ذلك بالقول: 
" إنه عن سبق إصرار يريد بقصف المدنيين أن يكون "نكتة مهضومة". يريد لقتل الناس أن يكون فكاهة لغيرهم، يريد لصرخات المذعورين على الأرض أن تتحول إلى ضحكات للذين يشاهدون الفيديو الذي سجله بهاتفه النقال" ص (33).
أما صورة ابن رامي مخلوف مع سياراته الفارهة، فهي لا تخرج عن السياق ذاته، إذ يصفها الكاتب بأنها: "فكاهة سوداء" بالنسبة إلى الشريحة التي لم يعرف شبانها سوى ركوب سيارات "الزيل" العسكرية وهي تنقلهم إلى جبهات القتال (42).  

 

من مجازر الخبز إلى معتقلات الخبز. 


يوثق ماهر شرف الدين لمجازر الخبز الكبرى التي دأب النظام على ارتكابها بكل وحشية عام 2012 في حلفايا بريف حماه، وتلبيسة بريف حمص، والبصيرة بريف دير الزور، وداريا بريف دمشق، ويلاحظ أن الضجة الإعلامية التي رافقت مجزرة حلفايا التي كانت الأكثر دموية بسبب ازدحام الأهالي أمام الفرن بعد انقطاع الخبز لأيام عديدة.. لم تردعه عن تنفيذ مجزرة ثانية وثالثة ورابعة على أبواب الأفران، ثم في أسواق الهال. وهي ملاحظة تضع التوثيق في إطاره الأكثر دقة: جريمة من سبق الإصرار. ليست خطأ ولا صدفة، بل اختراع قصدي متعمد، مسكون بالحقد على البشر. 


هكذا يجب أن توثق حقاً.. وهكذا ينقلنا الزمن من مجازر الخبز عام 2012، إلى معتقلات الخبز عام 2020 مع تلك الصورة الشهيرة للأقفاص الحديدية التي يوضع بها الناس أمام بعض الأفران في دمشق بحجة تنظيم الدور أو الطابور، دون أن يهمل خبر إعلان أحد المتصلين بإذاعة (المدينة إف إم) الموالية، بأنه يعرض قلبه للبيع من أجل لا يجوع أطفاله..  بعد أن شارف سوق بيع الكلى في سوريا على الكساد.


بمثل هذا الانتقاء الحاذق، المثقل بأبعاده التعبيرية، القادر على اختزال المأساة والوجع في صور لا تنسى.. يصوغ ماهر شرف الدين ألبوماً توثيقياً للثورة السورية، يفتح نافذة على تأريخ مختلف ومشتعل بالتفاصيل التي يجب ألا تنسى وألا تهمل.. حتى لا يبقى التاريخ سجلاً للمعارك والمجازر والحراك السياسي وحسب. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات