من الذي سيربح الحرب في أوكرانيا: بوتين المغامر أم دهاء الغرب؟

من الذي سيربح الحرب في أوكرانيا: بوتين المغامر أم دهاء الغرب؟

حرب روسيا على أوكرانيا هي حرب ذات مستويين، أحدهما قريبٌ، ودوافعه واضحةٌ روسياً وغربياً، وثانيهما بعيدٌ، أي إستراتيجي، يتعلق بمحاولة إبقاء نظام الهيمنة الأمريكية والغربية عالمياً، ولهذا تبدو الحرب في أوكرانيا ضربة استباقية للروس، تقيهم الاحتواء الغربي وفق منظورهم، وتجعلهم رقماً سياسياً وعسكرياً في معادلة تحوّل النظام العالمي من سياسة القطب الأوحد إلى سياسة تعدد الأقطاب.

 

الغرب يدرك تماماً أهداف النظام البوتيني، في محاولة فرض روسيا في معادلات الصراع العالمي، كقطب جديد يرث الماضي السوفييتي، ولهذا فكّر الغرب باستدراج الدب الروسي إلى مربع استنزافٍ، رسمه باقتدار، على قاعدة القتال بأذرع الآخرين.

 

وفق هذا المنظور، ابتعد الأمريكيون ومن خلفهم الغرب الأوروبي عن الصدام العسكري المباشر مع الروس، فهم لا يريدون حرباً مباشرة مع روسيا، وإنما يريدون استنزاف القدرة الروسية عبر تقوية خصومها الأوكرانيين، ولهذا امتنع بايدن عن دعم ما سمّي حظر طيران فوق سماء أوكرانيا، مكتفياً بالسماح بتزويد الأوكرانيين بمضادات جوية ومضادات دروع، كي لا يحدث أي تصادم عسكري مباشر بينهم وبين الروس، ما يمنح الأخيرين فرصة توسيع الحرب ونقلها إلى ساحات محسوبة على حلف الناتو.


لقد خاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الكونغرس الأمريكي مطالباً إياه "بابتكار أدوات جديدة للتصدي لموسكو، وفرض عقوبات جديدة لإيقاف آلة الحرب الروسية".


زيلينسكي بات على دراية، أن الغرب يحارب النظام الروسي البوتيني بأذرع أوكرانية، وهو محكوم بهذه المعادلة، فإما أن يقبلها، ويضطر إلى قبول الهيمنة الروسية على بلاده، وتحويلها إلى تابع صغير في معادلات أطماع القيصر الجديد "بوتين"، وإما أن يرفضها ويتحول إلى ذراع صراعٍ لمصلحة أوكرانية ببعض الجوانب، ومصلحة الغرب بأكثر الجوانب.


هذه المعادلة ليست معادلة مؤقتة أو طارئة، بل هي معادلة صيرورة التطور الرأسمالي العالمي في أحد حلقاته المتقدمة، ولذلك لا يستطيع زيلينسكي سوى أن يختار أحد طريقين، طريق التبعية لروسيا دون قيد أو شرط، كما حدث لبيلاروسيا، أو طريق الانخراط وفق الوزن النوعي لأوكرانيا في ميزان القوى الغربي العالمي.

 

 لهذا يمكننا القول: إن الغرب لا يريد مواجهة الروس عسكرياً بصورة مباشرة في أوكرانيا، وهم لا يريدون نقل المعارك من المربّع الأوكراني إلى المربع الأوروبي، لذلك ذهبوا إلى خيار دعم الجهد العسكري الأوكراني بأسلحة متطورة، تمنع الطيران الروسي من تحويل غزوه لهذا البلد إلى عملية "محددة"، وتحوّل المدرعات الروسية إلى حطام كبير.


هذه المعادلة تجعل النظام البوتيني في وضع حرج جداً أمام الشعب الروسي، فعنترياته التي مارسها في الساحة السورية، لم يعد يستطيع ممارستها في الساحة الأوكرانية، هذا الغرب الذي أغمض عينيه عن الدور الروسي في سوريا، كان يراهن على احتواء الروس في معادلة إستراتيجية قادمة في صراعهم الاقتصادي والسياسي مع الصين المتحوّلة إلى تنّين مرعب.

عنتريات بوتين في سوريا على المدنيين العزّل وفصائل الثورة، لم تكن لتطفو على السطح لولا الموقف الغربي الذي منحهم بعض الدور في هذه الساحة الملتهبة.


عنتريات بوتين في أوكرانيا سقطت في وحل تلك البلاد، فهو يتعامل مع دولة محسوبة على الغرب عموماً، ولهذا وجد القيصر الروسي الذي يتربع في الكرملين، أن عملياته العسكرية لتغيير الواقع السياسي في دولة ديمقراطية مهددةٌ لنظامه الشمولي، ولهذا تخيّل أنه سيحسم الأمر عسكرياً بسرعة، ثم يضع أوراق تفاوضه مع الغرب على الطاولة.

 

لم يتخيّل بوتين حجم رد الفعل الغربي اقتصادياً ومالياً وسياسياً عليه، ولم تضبط حساباته العسكرية في الانتصار السريع على حكومة زيلينسكي المنتخبة ديمقراطياً، ولهذا اكتشف حقيقة أوهامه السياسية والعسكرية، ورمى بأخطائه وصلفه على جنرالاته في المخابرات وفي الجيش، معتقداً أن مثل هذه الإجراءات كافية لفتح باب التراجع العسكري أمام قواته التي لم تعد قادرة على لمّ جثث الجنود الروس من أرض المعارك في أوكرانيا.


فشل بوتين العسكري رغم اعتماده على سياسة الأرض المحروقة ومبدأ التدمير الكبير للحياة المدنية، وخناق العقوبات الاقتصادية المطبّقة عليه، سيجعلانه في وضع حسابات سياسية من ضمن بنية حكمه، ولهذا فأمام بوتين أحد الخيارات المُرّة التالية:

 

أن يذهب بوتين ومجموعة حكمه إلى توسيع المواجهة مع الغرب في أوكرانيا، وهذا يعني نزيفاً جبّاراً في قواته وقدراته العسكرية، والتي ثبت بالملموس أنها غير قادرة على الاستمرار بحرب استنزاف هائلة، ومواجهة شعب استطاع امتصاص الصدمة الأولى لهجوم الجيش الروسي. توسيع المواجهة يحتاج كلفاً عسكرية ومالية واقتصادية لا قبل له بها، ولا يمكنه الاستمرار فيها أمام غرب قوي اقتصادياً وعسكرياً ومالياً.


وأن يتراجع بوتين عن حربه في أوكرانيا، ويضطر إلى سحب قواته من مستنقع نزيفها، فهذا يعني فتح باب التفاوض مع الغرب القوي في لحظة ضعفه الواضحة، فهو سيحاول إيجاد معادلة الانسحاب بأقل التكاليف التي سيدفعها، وهذا وهم سياسي، فما دام بوتين لم يربح "حربه المحددة" فهو سيضطر إلى تقديم تنازلات سياسية جوهرية لصالح الغرب في ملفات صراعه معه.

التنازلات السياسية التي سيقدّمها بوتين للغرب في هذه الحالة، لن تمس الوضع الأوكراني فحسب، بل تتعداه إلى أوضاع صراعٍ أخرى، ينخرط فيها الروس مثل تدخله في سوريا وحمايته لنظامها المتهم بارتكاب جرائم حرب موصوفة.


وستشمل التنازلات اصطفافه إلى جانب الغرب، وانخراطه في معادلاته السياسية، وتحديداً ما يتعلق منها بالموقف من التهديدات الاقتصادية الصينية، إذ سيضطر إلى التخلي عن حلفه المؤقت الحالي مع النظام الصيني.

انسحاب بوتين من أوكرانيا دون تقديم تنازلات جوهرية، يعني استمرار نظام العقوبات الغربية عليه، وحصاره عملياً، وهو أمر خطيرٌ بالنسبة لنظامه، وخطير كمبرر لوجود هذا النظام، الذي بنى سياسته على محاولة استعادة الدور الروسي دولياً وفق معادلة فرض نفسه قطباً نداً للقطب الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً.


انسحاب بوتين من أوكرانيا دون ربح سياسي، (وهذا ما سيحصل)، سيغير معادلات الصراع السياسي داخل البنية الحاكمة، وداخل الشارع السياسي الروسي، وهذا إن حدث سيكون أكثر خطورة على نظام بوتين المغامر، والذي تخيّل للحظة أنه قيصر روسيا التي لا تُهزم.

 

بقي أن نقول إن الغرب المتمرّس بالبراغماتية السياسية سيستطيع ببساطة امتصاص اندفاعة ومغامرة بوتين، ما يساعد هذا الغرب على تعميم نموذجه الاقتصادي والسياسي بما يتوافق مع مصالحه الكبرى.  


 

التعليقات (3)

    HOPE

    ·منذ سنتين شهر
    الحرب اسلوب الاحمق في التفاهم مع الاخرين .. كل الحروب التي حصلت في التاريخ كان ضررها اكبر مما قد يحصل من خلال التفاهم .. همجية الانسان و جشعه و حبه للسلطه تجعله اقرب للحيوانات عند اختيار قرار الحرب ... بشكل عام الكل خاسر في الحرب .. المليارات التي تصرف في الحروب لو انها تصرف في سبيل تنمية البشر لما كان هناك مجاعات و فقر او جهل ... ولكن !!! الخير والشر في صراع دائم والشر من يبدا الحرب دائما .

    فريد

    ·منذ سنتين شهر
    قلتولي دهاء الغرب ؟؟ وبوتين مغامر ؟؟ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

    HOPE

    ·منذ سنتين شهر
    الروس اعتقدوا انهم بما فعلوه في سوريا اصبحوا من السطوه بما يمكنهم بفرض اجندتهم في اي مكان في العالم ... ما حصل الان في اوكرانيا شبيه بشكل كبير لما حصل قبل و مع بداية الحرب العالميه الثانيه ... الا ان الخطر الاكبر بوجود التهديد النووي الذي يملكه الروس و بامر من بوتين قد يدمر الحياه بالكامل على الارض ... العالم اخطا في 2014 و 2015 ولان يدفع الثمن ... المجرم لا يجب ان يستهاب لانه مجرم .. المجرم مكانه تحت سقف القانون في السجن او على اعمدة المرجه ..
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات