التمرد الشعري في مجموعة (ظلال لامرأة واحدة): إنجازات العذاب وتجلياته!

التمرد الشعري في مجموعة (ظلال لامرأة واحدة): إنجازات العذاب وتجلياته!

تتنوع تجارب الشعراء ورؤاهم الفكرية، مع تنوع خبراتهم ومعارفهم حيث نراهم يستمدون رموزهم وآفاقهم التجريبية من روافد عدة ، لتكون اللغة المتوترة هي المعرف الأوضح عن ماهية ما يرمون إليه؛ فمتى كان سؤال البناء الجمالي للنص الشعري داخل هذه اللغة دائم الحضور بكل تأكيد سنرى هنالك نصوصاً تنحو نحو الشعرية الصافية؛ وقد أشار مايكل ريفاتير إلى ذلك حيث يقول: "تختلف لغة الشِّعر عن الاستعمال اللّغويّ المشترك ـ وهذه واقعة يحسّ بها القارئ الأكثر سذاجة إحساساً غريزياً. صحيح أن الشعر كثيراً ما يستخدم كلمات بعيدة عن الاستعمال المشترك" وينتهي قائلاً: "إن الشعر يعبِّر عن مفاهيم وأشياء تعبيراً غير مباشر، أي إن القصيدة تقول شيئاً وتعني شيئاً آخر" وإننا هنا نعني الإيحاء الذي لا يقف على قدم الأشياء المادية ليصوّرها، بل يتعداها لينقل التأثير الذي تتركه هذه الأشياء في النفس بعد أن يلتقطها الحس؛ ومن هذا المجرى فإن القارئ لمجموعة (ظلال لامرأة واحدة) للشاعرة التونسية هندة محمد، سيلمس في عدد من النصوص الابتعاد عن المباشرة ويلاحظ قوة الإشارات وتدفقها.

المرأة بوصفها الفاعل!

ومن المشهود له في عدة نصوص ما قامت به الشاعرة من رصد عوالم المرأة وطريقة تقديمها لها بمنطق الفاعل القادر، فجنحت نحو التصويرية التي ترصد انفلات الذات والتحام الكون معها، فتشاكلت مع الوقائع التي حوّلت الشاعرة إلى رائية، عالمها مليء بالكشف، تقول:

لغتي 

مناراتُ البحارِ أشدُّها نحو الفضاءِ 

لتستحمَّ بناري

لغتي الهواءُ 

ووردةٌ في القلبِ 

تنمو بين أقبيةِ الغيابِ العاري

لي 

من رؤاها أحرفٌ مزروعةٌ

في بيدرٍ يشتاقُ للأزهارِ

بصور رشيقة غير مُؤسسة على مزواجات المفردات مع بعضها البعض فقط، صنعت الشاعرة هنا عالمها الخاص مع اللغة، فتصاعد مع الكلام الإيصالي الذي يحتمل التأويل المتعدد أفق المغامرة على الصعيد المعنوي، لتحاول أن تقدم استفسارات وأسئلة... لا إجابات عنها غير متوقعة ومعروفة بالنسبة للقارئ.

ومما عكس فيها روح التمرد، أن القارئ للمجموعة سيقف على دمج النثر مع التفعيلة وأحياناً ينصهر الشكل كاملًا في تشكيلات متعددة، وكأنها تريد إيصال فكرة التمرد ليس فقط بالموضوع بل حتى في التكوين البنائي للقصائد. مما ينصبُّ بالضرورة في إظهار حالة التأزم النفسي وكسر القواعد؛ تقول الشاعرة في قصيدة صباحٌ أخيرٌ لقاطفةِ الأغنيات:

بتلك السّماواتِ في كفِّها... ستعودُ إليه

تعيدُ المدينة من ليلها.

لتفتحَ بابَ الضّياءِ الأخيرِ بقلبِهْ.

هي الآن تسطو على الكلمات

تقولُ: 

(( أفكّرُ مثل العاطلين عن الضّوء

أحاول أن أجمّع في رأسي نزف الصّباحات 

الأخيرة

ورأسي شهيدُ المساءات الشّاردة

أمرُّ ...ألملمُ دمعَ القصائدِ في صوتي

وألقّنُ أطفالَ المدن الهاربة فيَّ

درسًا أخيرًا بطعمِ البكاء))

إنجازات العذاب وتجلياته!

تشتمل الأسطر على الكثير من الصور التي تنقل للمتلقي الحالة النفسية للشاعرة بتفاصيلها إذ سياقها يوحي أن ذلك المخلِّص (الضياء المترامي) بعيد المنال، فالحالة التي تعرضها الشاعرة مكتظَّة بإنجازات العذاب وتجلياته، حيث نرى منذ بداية النص حالة الضياع "بين إعادة الضياء إلى قلبه وبين السطو على الكلمات" وأن هناك صورة نفسية غير مرضية حيث يتجلَّى الحزن في المقطع النثري في القصيدة مرات عديدة وكذلك الهم والعذاب. ونرى قدرة الشاعرة على التعبير في هذه المقطع الذي دمجت به بين شكلين كتابيّيْن (بصيغة انفعالية) ليأتي ضمن هذا الانفعال إيحاء بنّاء ويساهم في تعزيز ما قامت به الشاعرة بالدمج بين الشكلين في التركيز على توصيف حالة عدم الاستقرار بجزئياتها كاملة.

والملاحظ في كثير من الأحيان أنه تم استخدام فنّيات قصيدة النثر المعروفة في الإيحاء والتكثيف... هذا الشكل في الاستخدام أعطى مساحةً أوسع للشاعرة في تفجير هذه التقنية والاستفادة من كامل طاقتها على مساحات النص، فالشكل النثري الجديد كان وعاءً مناسباً لتطوير عناصر التعبير التي تحتاج بالضرورة إلى مناخ مناسب لتفعيلها أكثر وإعطائها أبعاداً دينامية جديدة ودلالاتٍ بلاغيةً أغنى لتؤثر بالقارئ، تقول الشاعرة هندة:

قلبي كسيحٌ هذا المساء

ولا عكّازَ أهشُّ به على أشباهِ الضّوءِ

وأصابعُ من ماءِ تتناسلُ بيني 

فتورقُ في الغيبِ نجمة

...............

ولي مدينةٌ من جمرٍ أهملتْها الدّروبُ فضاعتْ

في صدري

المدينةُ...طفلةٌ الوقتِ

انتهكوا فجرَها

أسالوا على جرحِها حميمًا

وأنا البصيصٌ نحو مواسمِ النّهار

أشدّ عمري إلى وطنٍ ضلَّ طريقَهُ

وأبحثُ عن قلبي وسط مدائنَ أتلفَها اللّيل

وكما نعلم أن الشاعر مُطالب بأن يكون ممتلئاً بالمعارف السيسولوجية حين يصعد المواقف الحياتية إلى شعر؛ ومهارات قصيدة النثر الفنية أيضاً قد تساعد على ذلك حيث يستطيع المبدع أن يفجّر مكامن القصيدة المغايرة للآخر ويجعل كل شيء من حوله قابلًا للتحوّل إلى إحساس وتصوير شعري عاليين؛ نعم بالإمكان ذلك إذا ما امتصّ هذا التحول التفاصيل وخلق بؤرة توتر شعرية بين العادي والمتخيل؛ فيرصد للوقائع بعين شاعرة، وهذا ما احتواه هذا النص وقدّمه ليجعل القارئ يتشارك معه بكل إحساسه وعاطفته وتفاصيله عبر حامل تصويري متنامٍ.

ومن المهم الوقوف أيضًا على اللغة مكتنزة بالتوالد في هذه المجموعة؛ فاللغة الشعرية حين لا تنحو للتقريرية تتوالد معها الدلالات الجديدة بتلقائية، هذا التوليد لا يأتي عن مجرد التفكير في المعنى، ولكنه يستحوذ على عواطف الشاعرة؛ ومن ذلك قول الشاعرة في قصيدة آخر مواويل الغيم:

لا ماء أزرع فيه ذاكرتي

نار الخطايا أنهكتْ سُحبي

قد كنتُ في دنياك عاشقة

للشّمس في موّالك الرّحب

كنت الحكايا؛ صوتها شغف

النّايات بالأسرار في جذبي

هل كان رقص الرّوح أحجية

للعابثين يضمّهم قلبي؟

حضور النوستالجيا

الملاحظ في نصوص الشاعر هندة محمد حضور النوستالجيا بشكل قوي حين تعبر عن حاضرها المر؛ وتجلى من خلاله إلى قضايا وجودية كبيرة، تقول:

قلبي على الماضين 

في لغتي 

آهاتُهم نامتْ على شفتي

يمشون 

خلفَ الغيبِ يسترُهم

ما كانَ من أصداءِ أسئلتي

بين الشّتاتِ المرِّ أجمعُهُم

حتّى يفيؤوا بين أشرعتي

لا كفَّ 

من أنهارِهم حملتْ نارَ الرحيلِ الـ (بين) أوردتي

ما بين هذا الدّربِ 

لا سفرٌ يكفي خطى الألوان في جهتي

هنا عبرت الشاعرة في تركيب الصورة الشعرية عن قلقها في هذا الشتات الذي يعم العالم، فالمكونات الجوهرية عندها تزداد اكتمالاً عندما ترتبط برؤيا مشدودة إلى المطلق.

ـ والملاحظ في هذه المجموعة أن آليات انتقال حقيقية في الخطاب الشعري، فهي أجادت الانتقال من النزعة الذاتية الفردية إلى الموضوعية، ما صعد الملامح الدرامية في النصوص؛ فكانت مكوّناً أساسياً في إنتاجها، مصرّة على أن يكون الآخر الشريك الرئيسي والفعال في إنتاج النص، محاولة تخطي لحظة الانكسار، واستشراف مستقبل جميل؛ تقول:

مرّتْ به الرّيح والأسماءُ تنثرُهُ

لكنْ جراحٌ على كفيهِ تنكرُهُ

قالتْ ليَ: اليومَ لا لحنٌ يجمّعُهُ

بلِ القصائدُ والناياتُ تهجرُهُ

واليومَ ليلٌ إلى الأسرارِ يتركُني 

ويصطفيني فينسى الرّوحَ سكّرُهُ

ليستظلَّ بأغصان الرّؤى زمنٌ 

لكنَّ نارَ مواويلٍ تكسّرُهُ

أخيراً؛ إن مجموعة (ظلال لإمرأة واحدة) محملة بالأسرار والدرر، حاولت الشاعرة فيها أن تكسر القوالب الجاهزة للنص، وتحيله نصاً حداثياً، له حضوره الفني والجمالي الواعي.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات