مرت الأيام القليلة الماضية ثقيلة عليّ، كما لو أني أعيش في النصف الثاني من سنة 2011 في دمشق . في تلك الأيام كانت حياتي بطعم التراب وكنت أهرب إلى النوم لأنجو من هذا الطعم ومن اكتئاب حاد .. يومها كان أصدقائي يُعتقَلون الواحد بعد الآخر وكنت أرى دون قصد عبر قناة (الجزيرة) مشاهد مليئة بالدماء والجثث لرجال ونساء سوريين ..
1 - اليوم الأول لفيديو المجزرة
لكني بالأمس وعلى خلاف تلك الأيام، لم أستطع النوم .. قلق رهيب، وحزن مطبق منعني من التنفس منعني من الحركة فبت كما لو أني شُللت واسودّت الدنيا في عيني. كل شيء كئيب مظلم، مثلما كان بلا شك في عيون الذين مُنِعوا من النظر أمامهم وهم يساقون إلى الحفرة الكبيرة قي مجزرة التضامن... أثر الطمّاشة (قطعة قماشية تُعصَب بها العينان) لا يُمحَى من ذاكرتي، جرّبته مراراً في فروع الأمن وفي صيدنايا... الأسئلة تأكلني بل الرعب، كما لو أني عدتُ إلى تلك الفروع.
يدقّ قلبي بعنف، يتصاعد نفَسي، صوت وشيش مستمر في رأسي، أشعر بوهن.. تضاعف وهن رجليّ .. أشعر بي أُقاد إلى الحفرة متعثراً .. لكن لا ينتهي كل شيء .. لا أسمع صوت طلقة. القبضة القوية ما زالت تمسك بي وأنا معصوب العينين وتقودني ..أسير متعثراً إلى الحفرة مرة ثانية .. مرة ثالثة .. عشر مرات ... عشرين مرة ....
هل عدتُ إلى أقبية صيدنايا؟، إلى أقبية الفروع؟ إلى مخيم التضامن؟ ... غيرَ مصدِّق رحتُ أجول بعيني لأعرف أين أنا ... هل ما زلت في ألمانيا؟!.
2- اليوم الثاني بعد مشاهدتي مقتطفات من فيديو المجزرة
لا تحليل سياسياً يمكن أن يغطّي المجزرة ولا كلام.. لا أسئلة من قبيل: لماذا يسجِّل القاتل مجزرته؟ لماذا يسجّل القتَلة مجازرهم؟
حتى داعش كانت ضنينة قي هذه المسألة وأظهرت حرفية في سعيها لبث الرعب في القلوب في سياق حربها النفسية . لم تكن فيديوهات داعش مجّانية وعبثية وبلا هدف.. هذا دليل إضافي على أن داعش تتصرف بانضباط لا تعرفه عصابات النظام الأسدي .. فكيف بمن ينتمي إلى فرع أمني حال المجرم أمجد يوسف ومجموعته الرباعية؟
تغطية القتلة لمجازرهم لم تحدث إلا في سورية.. يبدو أن الغاية منه تتجاوز عند بعض أجهزة النظام بث الرعب!!
بالنسبة للغارديان هل تم نشر فيديو المجزرة لأهداف سياسية أم إنه مجرد عمل صحفي استقصائي مُتقَن لا سابق له بالنسبة لنا كسوريين في إطار تغطيات وتحقيقات الحرب السورية؟
ثم من هي الجهة التي سمحت بتسريبه ونشره دوناً عن مئات آلاف الفيديوهات وهي متوفرة على الشبكة أو في حوزة مراكز أبحاث سورية أوروبية ولدى ناشطين سوريين في أوروبا؟
ولماذا كان رد فعل النظام هو إطلاق سراح معتقلين متَّهمين بالإرهاب تحديداً وليس إطلاق سراح معتقلين سياسيين؟
أسئلة لا معنى لها أمام هول الفاجعة. فلا عقاب يمكن أن يوازي قتل أربعين رجلاً بريئاً مكبَّلي الأيدي، ولا شيء يعيد الضحايا إلى عوائلهم.
ثم إنك تفكّر.. سوى الله لا أحد في العالم مَعنيّ بسورية، بمأساتها، بمئات آلاف الضحايا المدنيين الذين قُتِلوا ظلماً قصداً أو بالخطأ.
ربما ترك اللغة على عنانها هو الأكثر صدقاً .. فليصرخ القلب كما يشاء.
ولتُرعِد النفس المذهولة .. ودع الأسئلة تنغل مثل دود في جثة .. لا تُلقِ لها بالاً.
3- اليوم الثالث بعد مشاهدتي فيديو المجزرة
(إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون) . سورة الزخرف آية 75
اكتشفتُ في هذه المجزرة وردود الأفعال عليها كم هو سهل أن يتحول أي شخص منا إلى مجرم قاتل بعد متابعته فيديو واحداً أو قراءة عشر بوستات تدعو للانتقام.
نعم لننتبه من القاتل المجرم الذي يقبع في نفس كل واحد منا. هذا المتخفّي الوحش الذي توقظه صور الدم والقتل وتحرّضه كلمات الانتقام والاتهام .. الذي ينتفخ فجأة ممتلأ بالحقد فيبعث حياً ليستولي علينا مُحرقاً كل منطق وأخلاق وإيمان وعقيدة نتحلى بها .
كيف يمكن أن نردع القاتل الذي ارتكب جريمته الجماعية عن العيش بسلام؟ كذلك كيف نردع ملايين القتلة المحتملين عن مجرد التفكير بقتل إنسان لأي سبب كان.. مهما كان السبب؟ هل نخبر القاتل أمجد أنه مقابل كل ضحية رقدت في الحفرة سيرقد هو مليار سنة في جهنم؟ أي إنه سيرقد أربعين مليار سنة في جهنم؟ هذا ليس مجرد كلام سنؤكد له ذلك بأفلام وشهادات لأناس عاشوا تجربة الاحتراق المادي أو النفسي في جهنم ثم عادوا إلى الحياة من جديد..
كيف سيتمكن بعد ذلك من العيش بسلام؟
لقد حذفتُ الكثير من السطور من هذه الصفحة، سطور مليئة بالبراكين والرعد وبأسئلة لا تنتهي عن وجودنا.. عن معنى وجودنا .. بشتائم لم أسمع بها من قبل.. لا أصدّق أن نفسي تقيّأتها... فليسامحني الله. وأعدتُ الكتابة مرات ومرات محافظاً على هدوء المعاني وسلامة عيون من سيقرؤون. لقد أتعبتنا المجازر والحروب فلينتهِ الالم دفعةً واحدة. وليبقَ الجميع بسلام.
التعليقات (7)