الانعطافة التركية وخيارات السوريين

الانعطافة التركية وخيارات السوريين

ظهرت الانعطافة في السياسة التركية تجاه نظام الأسد مع تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في أوائل آب الماضي، عندما كشف عن لقاء مقتضب جمعه في وقت سابق بوزير خارجية النظام فيصل المقداد في مؤتمر دول عدم الانحياز في بلغراد، بحثا فيه سبل الدعم التركي للمصالحة بين المعارضة و"الحكومة" في سوريا.

سياسة تركية جديدة

وعلى الرغم من تأكيد الوزير على أن تلك التصريحات لا تشكل منعطفاً في الموقف التركي حيال سوريا، وكذلك تأكيد قيادات المعارضة على ثبات الموقف التركي الداعم للمعارضة، إلا أن توالي التصريحات على أعلى المستويات السياسية والأمنية التركية وصولاً إلى الكشف عن اللقاءات الأمنية المتواترة بين رئيسي الاستخبارات في البلدين وفي العاصمة دمشق تحديداً، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على انتهاج تركيا لسياسة جديدة على مستوى الإقليم عموماً، والوضع السوري بشكل خاص، مما لا يفيد معه حالة الإنكار التي يعيشها قادة الائتلاف ومعهم قادة فصائل الجيش الوطني. 

وبين من رأى في السياسة التركية المستجدة تكتيكاً مرحلياً، ومن رآها استراتيجية جديدة، تبدو صفة "الانعطافة" بحد ذاتها محل نظر وتدقيق، فتركيا الضامن لقوى الثورة والمعارضة فاعل رئيسي في مسار أستانا الذي أفضى لمناطق خفض التصعيد والتي قضمها الروس من حيث المآل تحت أنظار شركائهم الأتراك، وكذلك هي فاعل رئيسي في مؤتمر سوتشي الذي أفضى إلى اللجنة الدستورية التي شكلت قفزاً على تراتبية الحل السياسي والتفافاً على مسار جنيف وتفريغاً لمضمون القرار 2254 بما ينسجم مع الرؤية الروسية للحل السياسي وتفسيرها للقرار المذكور والتي تتلخص بالمصالحة بين المعارضة و"الحكومة" السوريتين، مما لا يحتاج معه الحديث عن تكتيك أو استراتيجية جديدة أو حتى انعطافة، وإنما هي سياسة متواترة خرجت من الكواليس إلى العلن ليس إلا.

من حليف وشريك إلى وسيط

بصرف النظر عن أسباب ومبررات ودوافع السياسة التركية المستجدة ومدى أحقية الحكومة التركية في انتهاجها من عدمه، إلا أنه يمكن توصيف التغيير الحاصل على أنه إعادة تعريف للدور التركي، كفاعل خارجي في الوضع السوري، من دور الحليف والشريك للمعارضة إلى دور الوسيط بين المعارضة و"الحكومة"، والضامن لالتزام الائتلاف والفصائل العسكرية بتنفيذ الاتفاقات التي ستتمخّض عن الحوارات، الاستخباراتية حالياً والسياسية لاحقاً، بين الحكومة التركية ونظام الأسد بدفع ورعاية روسية، ووفقاً للرؤيا الروسية عينها، وذلك الدور يشبه إلى حد كبير الدور الروسي الذي يساند النظام ولكنه يحاور الطرفين، حيث تستمر روسيا في استقبال وفود من المعارضة والحوار معها حول الحل السياسي، بينما كانت تركيا في المرحلة الماضية تتحاور مع النظام سياسياً بواسطة الروس أو الإيرانيين ليصبح الحوار مباشراً من الآن فصاعداً.

وعليه وبموجب التعريف الجديد للدور التركي، فتركيا ستصبح ضامناً ووسيطاً كما روسيا، ومؤدى ذلك أن أية نتائج لا ترضي الشارع الثائر تتحملها المعارضة وحدها ولا يمكن تحميل تركيا شيئاً من المسؤولية عن ذلك.

سحب الورقة من يد المعارضة

لقد بات واضحاً أن سياسات الحكومة التركية محكومة بالحسابات الانتخابية الداخلية أولاً، خاصة وأن موضوع اللاجئين السوريين في تركيا وسبل إعادتهم إلى سوريا أصبح المحور الرئيس للصراع الانتخابي بين الحكومة والمعارضة، وبالتالي تسعى الحكومة التركية لسحب تلك الورقة من يد المعارضة، من خلال تحقيق إنجاز على هذا الصعيد قبل موعد الانتخابات، وهذا يدعم فرضية أن تلك التصريحات ليست مجرد تكتيكات سياسية، بل هناك خطوات سيتم القيام بها من أجل حل مشكلة اللاجئين بأي ثمن، حتى لو كان من كيس السوريين وتضحياتهم.

وإذا كان رهان الائتلاف ومعه الحكومة المؤقتة والفصائل هو على ثبات الحكومة التركية على مواقفها ودورها السابق، فإن ذلك الرهان من دون أدنى شك، هو رهان خاسر، لأن تركيا ستضغط على الطرفين لتقريب وجهات النظر، وكما إنه ليس من المنطقي مطالبة تركيا أن تنوب عن المعارضة في تحقيق طموحات الشعب الثائر، ليس من المنطقي ولا الأخلاقي أن يستمر الائتلاف في لعب دور الأداة لتحقيق المصالح التركية.

ما تقدّم يدق ناقوس الخطر ويضع المعارضة ممثلة بالائتلاف بالدرجة الأولى أمام تحدٍّ واستحقاق وجودي بكل معنى الكلمة، ويضعها أمام مسؤولية البحث عن خيارات وبدائل جديدة، سواء على المستوى الدولي أم على المستوى الداخلي، حتى تكون قادرة على الاستجابة لهذه التحديات المستجدة، وإلا سيكون الائتلاف بتركيبته الراهنة مهدداً إما بالزوال والتلاشي، أو بتنفيذ ما يطلبه النظام وروسيا ومعهم تركيا بحذافيره مما قد يضع الشمال السوري بفوضى عارمة لا يمكن التكهن بعواقبها.

هل ننظر للدور التركي بسلبية؟

لا ينبغي النظر إلى الدور التركي الجديد بسلبية، بل إنه ينطوي على فرصة ونافذة جديدة وربما أخيرة فُتِحت أمام الائتلاف، إن أحسن استخدامها، متمثلة بتوسّع هامش قراره المستقل وممكنات حركته في الداخل والخارج.  

ولعل الأولوية القديمة الجديدة هي لإعادة التماسك لصف الثورة والمعارضة ثم بعد ذلك يمكن القراءة في خارطة الحلفاء الدوليين وأولهم تركيا وفقاً للمصالح الوطنية العليا للسوريين. ومن نافلة القول إن الائتلاف سيبقى ضعيفاً وعاجزاً ما لم يستعد مشروعيته وحاضنته من خلال خطوة صادقة وجادة ومسؤولة من قبل قيادته الحالية، حيث بات لزاماً عليه، أكثر من أي وقت مضى، أن ينفض عن كاهله غبار التبعية والهوان وأن يترفّع قياداته وأعضاؤه عن حسابات المصالح المادية والشخصية، ويمسك زمام المبادرة بنفسه من خلال الدعوة لمؤتمر وطني عام وموسّع على مستوى قوى وشخصيات الثورة والمعارضة في الداخل والخارج، يحضَّر له جيداً من قبل لجنة تحضيرية مهنية، ويتمخض عنه نظام أساسي جديد للائتلاف يعرف فيه دور الائتلاف بوضوح  كمرجعية تشريعية، ثم يجري انتخاب لأعضاء الائتلاف وتنبثق عنه حكومة تنفيذية كاملة الصلاحيات بموجب النظام الأساسي المعتمد من المؤتمر العام، بسرعة وقبل فوات الأوان.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات