الثورة السورية: كيف أصبح مصدر الضبط خارجياً؟

الثورة السورية: كيف أصبح مصدر الضبط خارجياً؟

بنظرة عميقة وموضوعية على الجماعات (سياسية وعسكرية) والفئات المجتمعية في المناطق المحررة، نرى أن وراء هذه النظم الظاهرة نظماً تتحكم بمفاصل مختلف مجالات الحياة والنشاط المجتمعي. فالكل ينادي بحكم المؤسسات والقانون والديموقراطية، إلا أنهم يتصرفون انطلاقاً من مرجعيات خارجية أو ولاءات محلية تقليدية، ما جعلها تعيش حالة من الازدواجية بين ما هو رسمي ظاهر- قناع- وما هو خفي فعلي. فانقسم الناس (الناشطون في المجالات المجتمعية المختلفة) على تحيزات مختلفة تبعاً للانقسامات في المستويات العليا. ما أدى إلى سلب القرار على مستوى الداخل والخارج، والفشل في قتل المتحكم الرئيسي في الداخل السوري رمزياً. فهذه الورقة رفعاً للواقع في جزئية قد تكون مدماكاً أساسياً للفوضوية التي جعلت من مطالب الشعب السوري في المناطق المحررة ثانوية بالنسبة لمن يدعون السعي لتحقيقها.


الدعم المشروط

يعني الدعم المشروط أن يتم ربط هذا الدعم بضوابط/ شروط معينة من حيث وجه التصرف به بما يتناسب مع أهداف وتوجهات الداعم الرئيسي. وبالتالي، اختلت العلاقة بين الجماعات والفئات بين بعضها من جهة، وبينها وبين الخارج من جهة أخرى. فبدلاً من أن تكون العلاقة قائمة على التنافس والتفاعل الخلاق، تحولت العلاقة إلى عداء، وسوء ظن. هذا الدعم المشروط لم يحاصر الناشطين المستقلين فحسب، بل حاصر الجميع على كل المستويات، ومنعهم من صناعة المصير الذي يليق بتضحيات الشعب السوري، ووضعوا أنفسهم بين خيارين، إما الركون إلى الداعم طمعاً بمغانمه وحمايته، وإما أن يصنعوا تاريخاً مع دفع ثمن ذلك استبعاداً عن الساحة وسحباً للحماية.


ذهب الدعم المشروط بمن يتلقونه كل مذهب، لدرجة تمجيد الداعم وتكريس الجهود لحماية مصالحه، فلا يقبل منهم إلا المديح، وممنوع عليهم رؤية الواقع على حقيقته، وممنوع عليهم اتخاذ قرار يمس كبرياءه وهيبته. والأمثلة على ذلك في المناطق المحررة أكثر من أن تحصى. شكل الدعم المشروط مدخلاً للاستسلام والانهزامية، ومدخلاً لعدم الاعتراف بمؤسسات الثورة كمشروع وجود للسوريين دون النظام. لأن من يتلقى الدعم على هذا النحو، غالباً هو أداة للداعم ويسعى لتعزيز نفوذه وقوته في المنطقة، وليس ليكون مشروع وجود قائم بذاته. فممنوع عليهم أن يكونوا لذواتهم وأن نصيرَ جمعياً مشروعاً قائماً بذاته. وبالتالي، فرض الدعم المشروط نمطاً من السلوك على الجماعات السياسية والعسكرية بالذات؛ أن يكون مراوغاً داخلياً، وخاضعاً خارجياً.


ثقافتان متناقضتان

هناك مطالب مهمة جداً يتمنى الناس تحقيقها، أهمها توحيد القرار السياسي والعسكري للثورة السورية. وهذه المطالب تحتاج لجهد عظيم لإنجازها، إلا أن ضوابط التصرف بما يتم تقديمه من دعم حال دون ذلك، لأن البنية الفوقية الخارجية التي تسند البنية الداخلية فرضت توظيف كل الطاقات، أو جزء كبير منها على الأقل، من قبل البنية الداخلية لإثبات الولاء والإذعان للبنية الخارجية. وهذا ما يجعل أهمية العمل على إنجاز تلك المطالب ثانوياً من حيث القيمة والأولوية، ما دام الجهد- في معظمه- منصباً ومكرساً لإثبات الولاء. وبالتالي، صارت مطالب الناس الحقيقية مع هذه الثقافة (ثقافة الولاء) مفرغة من قيمتها ما دامت ليست أولوية بالنسبة لمن يتصدر المشهد السياسي والعسكري.


من جهة أخرى، فإن الخروج من هذه الحالة المأزومة لا يتم إلا بجهد ذاتي وجماعي قائم على ثقافة التجديد والابتكار، وأن تكون مكانة القائمين على ذلك قائمة على القوة والأمانة. وقد رأينا على مدار السنوات الماضية كيف أن الولاء للداعم لم يفعل شيئاً سوى تبديد للكفاءات التي طالما اعتبرت ثانوية؛ فدُفعت الكفاءات إلى المنفى الداخلي أو الخارجي بعد أن تم تهميشها، إلا البعض منهم حاول تجنب التهميش عبر تبني سلوك "تدبير الحال"، وهذا السلوك كرس إمكانات بعض الكفاءات في التسابق لإظهار الولاء والتقرب من البنية الفوقية الخارجية صاحبة الدعم. وبالتالي، توظف الإمكانات في غير محلها، فبدلاً من أن توظف في تحقيق مطالب السوريين على الصعيد السياسي والعسكري والمدني، صُيرت آليات للتملق والتقرب.

هل هذا طبيعي؟

تبعاً لما سبق، فإن الحوار والتبادل والنقد والتساؤل صار في مستوياته الدنيا، وغابت المرجعية الذاتية الموجهة للجماعات السياسية والعسكرية والمدنية، وبالتالي، أصبح مصدر الضبط خارجياً، ولم يعد هناك تساؤل أو نقد، وبذلك ينتفي الاستقلال وتُفرّغ القضية من قيمتها. أي أن تلك الجماعات لا تتصرف انطلاقاً من إرادتها الذاتية، أو مبادراتها الخاصة، كونها أصبحت أسيرة للفوقية التي تملي وتطلب الطاعة، وتسعى لمنع تجاوز الحالة الراهنة للمنطقة نحو المستقبل. حيث تم تهميش كل الكفاءات التي تحاول القيام بهذه العملية رغم أنها تشكل- عملية التجاوز- جوهر أي تغيير وتقدم.
ما دامت هناك محاولات للتغيير وإعادة مركز الضبط للداخل؛ فهذه الحالة ليست طبيعية، ففي ظل المتغيرات التي تمر بها المنطقة، من الممكن جداً تحقيق مكاسب على المستوى السياسي والعسكري والمدني بما يحقق تطلعات السوريين في المناطق المحررة. ولكن الجماعات المتحكمة بالساحة أشبه بأنظمة مغلقة، التبادل والمشاركة بينها وبين من تعمل من أجل تحقيق مطالبهم في أدنى مستوياتها، فأي مكاسب يمكن تحقيقها؟ مع هذه الحالة أصبحت المناطق المحررة كياناً مفتتاً لا يستطيع النماء لأنه لا يتمتع بالحيوية والدينامية، فهي بحاجة لوجوه جديدة وخبرات قوية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، خبرات قادرة على الاستفادة من المتغيرات الدولية وتوظيفيها في خدمة الثورة السورية.

 

 


  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات