لا بدّ مما ليس منه بدّ

لا بدّ مما ليس منه بدّ

إن السياسة موضوعٌ حي. إنها تساعدنا على رؤية ما وراء الأحداث والظواهر والقضايا، وتمنحنا رؤية مزايا وعيوب الأيديولوجيات الموجودة اليوم، وفيها تصبح الكتب المدرسية قديمة يوم نشرها. لأن المشهد يتغير كل يوم، وهي الطريقة الوحيدة المضمونة لمحاولة دفع الثورة ووضعها في جدول أعمال صناع القرار في العالم. ولكن يصفها الكثير من الشباب السوري بأنها فن من فنون الخداع والكذب فقط، ودائماً ما تتدهور هذه الكلمات في أشداقهم، فيضيقون واسعاً. وفي النهاية، يتركون الاهتمام بها وبالأنشطة المتعلقة بها، ويتوجهون لشؤون حياتهم الخاصة، لافتراضهم المسبق بعبثية الاهتمام والمشاركة السياسية وأن لا طائل من ذلك. 

تخيّل "أنك تعيش في دولة يحكمها القانون من كل جانب، تعمل في أحد الأماكن المشهورة فيها، ولديك أمل في الحصول على مقعد في الجامعة. عند استيقاظك، قد تدرك أن الحكومة قد اعتمدت التقويم الصيفي/ الشتوي، وإذا ما حاولت الاستماع إلى الراديو المحلي (الذي لا يستطيع العمل دون ترخيص من الحكومة)، يمكنك الاستماع إلى النشرة الجوية الممولة حكومياً. تسحب نفسك من السرير الذي من المفترض- حسب القانون- أن يكون مصنوعاً من مواد غير قابلة للاحتراق لاحتساء قهوة الصباح (ينبغي أن تاريخ الصلاحية والمكونات مكتوبة على العلبة وفقاً للقانون أيضاً). وإذا ما تهورت وقررت تدخين سيجارة ستجد أن الحكومة أصرت على كتابة تحذير صحي على العلبة. كل ذلك ما عدا تنظيمات السير وقانون التوظيف- وما عليك إلا أن تكمل القصة بنفسك".

هذا فقط على مستوى الفرد في إجراءات روتينية يومية، وكثير من الأفراد لا يعرف آليات تدخل الحكومة في كل ذلك، فمن باب أولى ألا يعرف كيف تتحكم الحكومة ببقية الأمور كالاقتصاد وسعر الصرف مثلاً، وكثير منهم أيضاً لا يدرك أهمية الأحزاب والنقابات في الحياة السياسية. يزداد الأمر تعقيداً في علاقة الدولة مع غيرها من الدول، وكيف تتفاعل ملفاتها مع ملفات دولة أخرى. فالصعوبة في فهم ذلك تدفع الناس للاحتماء بنظرية المؤامرة كتفسير لكل ما يجري مما يشكل منفذاً للهروب من تعقيد الواقع. إن التعقيد في الواقع لا يعني أبداً استحالة تفسيره وفهمه، بل يعني أننا لا ندرك فواعل الواقع وعوامله التي تؤثر فيه، وإن لم يكن لدينا اهتمام بالسياسة فلا يمكن إدراك وفهم الواقع، فمن السذاجة والتفاهة تفسير الواقع بعامل واحد فقط. 

التعقيد في الثورة السورية فرض تداخلاً بين ما هو سياسي، وديني، واقتصادي، وعسكري، وقانوني، وتاريخي. وبالتالي، فإن معيار تحديد ذكاء الأشخاص الفاعلين في الساحة اليوم يكون بمقدار فهمه لهذا التداخل. وبالتالي، تتجلى هنا منطقية الاهتمام بالسياسة. الشباب السوري الثائر هم الكتلة الحرجة التي يقع على عاتقها التغيير المنشود، وكلما كانوا مهتمين بالسياسة، كانت حياتهم بين أيديهم، على الأقل إلى حدّ معين. قد يبدو طبيعياً أن ندير ظهورنا لكل الأمور السياسية، على أمل أن يدافع الآخرون عنا وعن قضيتنا. لكن إلى أين يقودنا ذلك؟ أعتقد أن الاستمرار في إدارة ظهورنا للسياسة سيفقدنا السلطة على حياتنا والسيطرة على قضيتنا، وسيستمر منحنا الأشخاص في السلطة كل القدرات التي يحتاجون إليها، ليقتلوا حياتنا وتحويلها إلى ما يرغبون. اللحظة التي نتوقف فيها عن الاهتمام بالسياسة هي اللحظة التي نفقد فيها السيطرة.

إن معظم جوانب حياتنا تتأثر بالسياسة. كل شيء من الرسوم الجامعية وإضفاء الشرعية على التدخين. كل شيء يتعلق بالسياسة. يمكن أن تؤثر القرارات السياسية للحكومة والمنظمات الدولية على المياه التي نشربها والطعام الذي نتناوله والملابس التي نرتديها والمسكن. يمكن أن تلعب السياسة دوراً في أدق تفاصيل حياتنا، بما في ذلك حقوق الزواج، وحتى كيفية معاملة الجسم بعد الموت. السياسة ليست موضوعاً تم تضمينه بدقة في صفحات الكتاب المدرسي، ولم يكن كما يجب أن يكون في المقررات الجامعية.

إنه من السهل جدّاً وضع السياسة في الجزء الخلفي من عقلنا والتركيز على الأشياء الملحّة الأخرى في حياتنا الشخصية. بعبارة أخرى، يمكن تلخيص الموقف النمطي تجاه السياسة في هذه العبارة الواحدة: "أنا مجرد شخص واحد. لدي صوت واحد فقط. كيف يمكنني إحداث فرق؟" يجب علينا تحدي هذا الشعور. في حين أن المناخ السياسي اليوم ليس لضعاف القلوب، فإن آراءنا وأفعالنا يحدثان فرقًا في المستقبل. على الرغم من ترديد إبراهام لنكولن "السياسة تهم جميع الناس"، بصرف النظر عن مؤهلاتهم ومواهبهم ولا عذر لمن لا يأخذها على محمل الجد طوال حياته، إلا أن كثيراً من الشباب لا يرى في السياسة إلا مضيعة للوقت، وهي في المراتب الدنيا من الاهتمام بالنسبة لكثير من الناس.

وفي النهاية، لا يمكن أبداً إحداث أي تغيير حقيقي دون الاهتمام بالسياسة وتوعية أنفسنا والناس بها وكيف تدخل في كل جوانب الحياة، وبالتالي، فإن إدارة الناس والجماعات هي من أسمى المسؤوليات، وهي غاية في الصعوبة خاصة في بيئة الثورات (كونها بيئة فوضى). وهذه الإدارة تحتاج لمن يملك عقلاً راجحاً ومنطقاً معقولاً، ووعياً سياسياً بعيداً عن المظلوميات والمؤامرات، فالوعي السياسي أفضل ما يمكن الاعتماد عليه للتحكم في الاختلافات/التدافع بين الكيانات وتحويل ذلك إلى رافد للبناء والتنمية، ولا يمكن لمن يكون في هكذا مكان إلا أن يكون عارفاً في السياسة علماً وفناً.   

 

التعليقات (2)

    سوري حر

    ·منذ سنة 5 أشهر
    لقد صدق الإمام الغزالي عندما اعتبر أن أهم علوم الدين هو علم العقيدة ، و أن أهم علوم الدنيا هو علم السياسة ، و ذلك في كتابه المميز إحياء علوم الدين.

    عبدالله

    ·منذ سنة 5 أشهر
    كلام واعي وعظيم جدا 🌺
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات