زعران مملكة النفايات: تأمل أنثروبولوجي

زعران مملكة النفايات: تأمل أنثروبولوجي

تقول القاعدة الأولى في الزعرنة "لا تتزعرن بحارتك".. والأزعر سمة شخصية لا تقتصر على رجل بعينه أو امرأة بعينها، وهي قابلة للإثبات واقعياً وتجريبياً، وتنطوي على شخصية غرائبية متناقضة وإشكالية، يكون صاحبها/ صاحبتها، في الغالب محبوباً في حارته، وبين جيرانه وفي المقابل مكروهاً من أهله وذويه. والأزعر ليس بالضرورة بطلاً مفتول العضلات بمعنى ما. وهو ليس القبضاي بالمفهوم الشامي، لكنه يمتاز عنه في عدم خشيته من المواجهات، الجسدية أو اللسانية، الناجحة أو الفاشلة، سواء بسواء.

وهذا لا يعني أن الأزعر يشبه على نحو ما بطل حنا مينا الإيجابي على طريقته الواقعية الاشتراكية، بل هو في أحسن حالاته أشبه بشخص لا منتمي، كما تصوره كولن ولسون، أو سعيد مهران كما تصوره نجيب محفوظ. فهو، إذن، شخصية متناقضة تحمل بداخلها طاقة تكاد تنفجر، كلما سنحت لها الفرصة، على نحو خاطئ نوعاً ما. 

اللافت في الأمر، خضوع الزعرنة، رغم زئبقيتها، لتراتبية حادة تشبه في صرامتها سلوك قطعان المفترسات في "ناشيونال جيوغرافيك"، فمثلما لا يوجد ضبع حر ومستقل بذاته، كذلك لا يوجد أزعر حر ومستقل، فلكل أزعر معلم أكثر زعرنة منه، وهذا المعلم له معلم، والمعلم الآخر له كبير.. وهكذا في متوالية تبدو لا نهاية لها. وعلى هذا تخضع مصفوفة علاقات الزعرنة لمبدأ المنفعة المتبادلة -تماماً مثل عائلة الضباع التي رأيناها في "الناشيونال جيوغرافيك"- فالزعران (بصرف النظر عن كونه رجل أو امرأة) جبناء بطبعهم وكسالى، يفضلون علاقات التعايش والتكافل الطفيلية على العيش في سياق القوانين الناظمة للعمل والإبداع. قد يتمتع الأزعر ببعض ذكاء، لكنه ذكاء اعتباطي طارئ ومتهور، بعكس القبضاي الذي يظهر أقوى من الأزعر، لكنه أغبى منه أيضاً، وإن كان بتعقل ..

وإذن... ماذا بعد؟ 

ما سبق عبارة عن مقدمة لتفسير ثلاثة مشاهد عشناها جميعاً في فترات متقاربة كما يلي حسب الترتيب الزمني

 المشهد الأول: 13 تشرين الأول 2016: سينتيا سركيس: الوجه الآخر لمدينة الشبق

نشر موقع “MTV” اللبناني، مقالاً لسينتيا سركيس بعنوان "يمارسون الجنس حيث لا يجرؤ الآخرون" تتحدث فيه عن  نسب توالد السوريين وتأثير ذلك على المجتمع اللبناني. ولن ندخل كثيراً أو قليلاً في مغالطات** المقالة ، بل سنكتفي بشرح كيف تبيعنا المقالة، بالأحرى مقترحها الطائفي، وهماً اسمه الخطر الداهم من الشرق على "لبنان الأخضر" بلغة تقريرية تشبه لغة محاضر محاكم التفتيش حين تتحرى عن السوري الذي يتحول إلى شخص انحدرت هشاشته إلى درجة أن يعنّف مثل طفل أو يُقتل على أي ذمة دونما إطار متاح له للدفاع عن نفسه.

ومن الواضح أن هذا التركيز على السوري وبهذه الصورة إنما ينبع من بقايا ما ترسب لدى الكاتبة أو ما هرب من أفكار الاضطهاد والاضطرابات النفسية والجسدية، وغير ذلك من حالات القلق الانهياري التي خلفتها الحرب الأهلية فتتمثل أشد الإعدادات النسقية عنصرية لجهة خلق عدو "وهمي وضعيف" تؤثث على حطامه وطنيات تتجمّل فيها على حساب السوريين بما هو ليس أقل من نخاسة سياسية وبيع مواقف لا طائل منها ولا فائدة ترجى سوى زيادة آلام شعب يذبح يومياً على يد جلاد العصر الحديث.

فالسوري، في نظر سينتيا ومن مثلها أو يمثلها، باعتباره لاجئ " وفي لبنان تحديداً" لن يكون في أي لحظة موضع ترحيب حتى بأبسط المعايير الإنسانية، ولا موضع حماية (لا رسمياً ولا حتى شعبياً) إلاّ بوصفه عيّنة تجريبية عن الإساءة. ففي هذا البلد الذي تتناحر فيه المارونية السياسية مع رأس المال السني مع سلاح " المحرومين" بنرجسية قلّ مثيلها، وتاريخ تقاتل طويل واحتراب طائفي وغير طائفي، لطالما احترق في تفسير المؤتلف والمختلف وتوازنات تعجز عنها أعتى النظريات السياسية على فهمها.

وسوف يتحول الهجوم على اللاجئ السوري (ومن خلفه أي لاجئ آخر) لدرع طائفي يحمي أفراده من "التلوث" بالغرباء، وهكذا سيكون حتى "الوعد" القانوني غير الموثوق فيه لا يشكل حماية من أي نوع لهذا اللاجئ، الذي سيكتسب مع مرور الوقت صفة "الإنسان العاجز Homo Sacer "*** بذات المضامين الحقوقية الرومانية القديمة التي أسست لهذه الصفة، بمعنى أن قتله أو موته لا يشكل فرقاً نظراً لعدم أهميته وجودياً ونظراً لاستعداده الفطري لأن يموت أو يقتل باعتباره ضحية.

تزعم سينتيا أن الوجود السوري يشكل تهديداً للبنان (باعتباره دولة ووطناً!) ويغيب عن بالها لو انحرفت خارطة هذا الوطن في لحظة انتدابية عتيدة للشرق قليلاً أو للجنوب، لربما ألفت سينتيا نفسها مواطنة من جوسية الخراب أو سرغايا.. إلخ، ولربما كانت من لاجئي القصير في عرسال، أو ربما تل زعترية حفيدة لاجئ من جليل فلسطين

المشهد الثاني: 30 حزيران 2017: الجيش اللبناني يقتل 7 سوريين معتقلين تحت التعذيب

تعود الحادثة إثر هجوم الفوج المجوقل اللبناني على مخيمات اللاجئين في عملية أطلق عليها آنذاك عملية "قض المضاجع" .

رضوان محمد العيسى المبتور القدمين مع شقيقيه؟.. رصاصتان في الرأس أمام عيني زوجته التي أخرجوها عنوة من خيمتها لتشهد مصرع زوجها، قبل أن يتم اعتقال شقيقيه مروان وصفوان؛ وقد أمر الجيش اللبناني العتيد بدفن السوريين السبعة دون السماح بالتقاط صور لهم، بالتواطؤ مع رئيس بلدية عرسال (باسل الحجيري) . في تلك المنطقة بالذات (عرسال) لا وجود للجيش اللبناني بشكل حقيقي، فالسيطرة هي لعناصر حزب الله، ومر الخبر دون أي تعليق وبتواطؤ فاضح لرسم حدود "الكراهية" يشبه تواطؤ الإعلام الإسرائيلي والجيش والشاباك لتغطية انفلات قطعان المستعمِرين في الضفة المحتلة.

صور السوريين القتلى على يد الفحل اللبناني الذي اكتشف لتوه فائض التستوستيرون عنده تثير الكثير من المشاعر المختلطة ليس أقلها، ربما، الاعتقاد بأنه بالتخلص من السوري سوف تنتهي جميع مشاكله من كهرباء وزبالة واتصالات وبنوك وفساد ونواب وتقاسم طائفي.. وغيره الكثير.

 المشهد الثالث: 7 حزيران 2023: نضال الأحمدية والشوكولامو

وأحدث نسخة من أبطال "لبنان الأخضر" كان ما قالته الإعلامية نضال الأحمدية أثناء مقابلة مع "صوت بيروت إنترناشونال" بأن اللاجئين السوريين يعيشون في لبنان للتنزه "الكزدرة" ويحصلون على الكهرباء والماء بالمجان. وقد عبرت عن اندهاشها حين طلبت من عامل أو موظف سوري يعمل في مطعم لبناني "شوكولامو"، فبدا هذا "السوري" كأنه لم يفهم قصدها، وبقي ساكناً لا يعرف بمَ يجيب، ما أثار استغراب الأحمدية عدم معرفته بالشوكولامو، وحاولت أن تشرح له أن الشوكولامو لا مرادف له بالعربية. وتابعت تقول إن "اللاجئ السوري لم يعرف المطلوب منه لأنه يرفض تعلم اللهجة اللبنانية التي تحتوي على المرادفة المذكورة، لأن لبنان بالنسبة له محافظة تابعة لسوريا".

نضال الأحمدية هي المثال الأشد وضوحاً للمقدمة عن الزعرنة، بقدر ما تحمل هذه الشخصية من "تنافر معرفي"-لو جاز لنا القول- يتمثل في سلوكياتها المتعاكسة التي تعبر عن اعتقادات مضطربة وعدم توازن، فهي تظهر في لقاءاتها بمظهر عدم الارتياح والتشابك مع المحيط وسوء النية وتطلق تصريحات وتعابير دون أي قيمة معرفية محددة، مجرد هراء لا أكثر ما يوحي بحالة قلق تعيشها مفعمة بالحزن ربما والندم..

تبدو نضال من الخارج متماسكة بصيغ الوطن اللبناني المشابه لوطن سينتيا سركيس وعناصر الفوج المجوقل، وإن كانت تراه من غير مطرح، فإذا كانت سينتيا تستغرب وتعصر نفسها وتندهش وتتلوى كمداً "على طريقة غولدا مئير" بدفق هائل من المشاعر الاستشراقية، كلما رأت سيدة سوريّة حامل و تتساءل كيف تسنى لها الوقت لتحمل، وتتابع بغضب وتقزز وتعالي المريخيين وتجريبية سطحية سخيفة وتختزل الأمر بطريقة وضيعة وبلغة العالِم الخبير: أن الجهل هو السبب، فإن نضال تصل إلى أقصى حدود التجربة من أجل التوصل لاستنتاجات مرغوبة، حين ترى في اللاجئين السوريين في لبنان مجرد أدوات في "الحرب على سوريا".. وكأن الحرب مجرد زلّة لسان بين زملاء في المهنة.

قد يكون بحر الزبالة المتلاطم في لبنان الأخضر منع وعي نضال الأحمدية الطائفي من الإحاطة بأسباب وجود السوري في لبنان. وإلا فنحن بلا ريب أمام سلوك عنصري شوفيني تتقازم أمامه "كيمياء التبجح" لطقوس اللمبة الحمراء لمدير فاسد، وفرادة لا توصف في العهر السياسي بحاجة فقط لتتويج صاحبته حارسة ماخور غارقة في هموم تأمين مسابح للسيدات اللواتي يرغبن في الابتعاد عن الأعين والتمتع بملامسة المياه لأجسادهن، وبخدمة الـtopless.

ولعل هذا، من ناحية أخرى، ما يجعلها تعيش حالة التنافر هذه بسبب قوة وسلطة "لبنان الأخضر" فتراكم الصور والمجازات عن لبنان المتعدد يخلق شتات لا حل له ويولد استعصاء ليس من السهل تفكيكه.. 

قد يقول قائل، ولكننا جميعاً نواجه، بشكل أو بآخر، مثل هذا التنافر المعرفي الذي تزعمه!

أجل ربما هو هكذا..  غير أن الهدف لا يتمثل في طرح أي فكرة مهما بدت منطقية أو النجاح في إقناع الآخر بها، أو حتى تغيير رأيه. فنحن بوصفنا بشر وجزء من المملكة الحيوانية نتمايز عن بقية أفراد هذه المملكة بقدرتنا على الجدل والسجال وامتلاك ما لا يعد ولا يحصى من الأدلة والحجج والإحصائيات والأرقام التي نستطيع أن نفردها أمام مجادلينا.

وإذن صحيح.. جمعينا لدينا مثل هذا التنافر المعرفي، ولكن مثل نضال الأحمدية ما غنّى المغنّي

** ربما غاب عن سينتيا سركيس الاطلاع على بعض الإحصائيات المتعلقة بمعدلات الخصوبة العامة عند السوريين لفترة ما بعد الحرب، فقد بات من المعروف انخفاض  معدلات الخصوبة  لدى المرأة السورية التي عمرها ما بين 15 و49 سنة ( السن المعتمدة للخصوبة النسائية) ليبلغ نحو 2.8 طفل بعد كان نحو 3.8 قبل العام 2005. وتشير بعض الإحصاءات الدولية إلى أن هذه التراجع قد يصل إلى نسبة 26% مع نهاية العقد الحالي، دون الخوض في أسباب تراجع هذه المعدلات.  

*** تعبير الإنسان المستباح Homo Sacer  يعود للفيلسوف السياسي الإيطالي جورجيو أغامبين الذي اختاره عنواناً لكتابه ، ويفسر فيه كيف تعمل لسلطة السياسية على تشكيل الجسد السياسي الحيوي التي يدعوها ميشيل فوكو "السيطرة على الحيز البيولوجي" والتي كانت سائدة في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويرى أغامبين أن هذا التشكيل البيولوجي للجسد السياسي لم يمكن ممكناً دون استعاد من يتم حرمانهم من الوضع القانوني الكامل في الدولة (لعل مثال الشعب الفلسطيني الآن افضل تعبير عن مقولة الإنسان المستباح الذي لا يشكل موته أو قتله فرقاً أو تبعات قانونية، بل تنفذ هذه الخطوات بموافقة المجتمع السياسي الذي يرفض تقديم ضمانات قانونية تمنع من إجراءات الانتقام والقتل هذه، وبهذا يتحول الإنسان المستباح إلى مجرد "شيء/ موضوع" مادي لا أكثر ويختزل وجود إلى نوع من "الحياة العارية"، أي  بمثابة الميت الحي ).

التعليقات (4)

    شوكولامو

    ·منذ 10 أشهر أسبوع
    من هي نضال الأحمدية سوى زميرة تزمر لمن يصفق لها ... صرماية طفل سوري لاجئ في لبنان بيسوا عيلتها كلها

    خالد ابو شكير

    ·منذ 10 أشهر أسبوع
    مقال رائع ووصف وتحليل اروع لكل عاهات لبنان ومعتوهيه ...

    جرير

    ·منذ 10 أشهر أسبوع
    نضال الاحمدية واحدة عجوز شمطاء رمز من رموز العهر في الاعلام اللبناني الخاضع لحزب الشيطان خنازير الشيعة و اعوانهم العونيين .

    متفائل

    ·منذ 10 أشهر أسبوع
    لبنان بلد منتوف، ثلاثة ارباع اللبنانيين مهاجرين بالخارج، كلهم بيحلموا بالعودة لوطنهم من الغربة محملين شوالات دولارات، لم بتشوف لبناني بتفكره مواطن فرنسي، بيلبس باناقة، ولما بيفتح تمه ويحكي ، اغلب كلامه بيستخدم كلمة انا وانا وانا، بتحس حالك عم بتحكي مع واحد إيطالي شايف حاله، لكن لما بيرجع اللبناني لبيته وبيتعشى، بتشوف اكله ما بيختلف عن أكل السوري، منقوشة زعتر، مربى فراولة وجبنة. ولما اللبنانيي بيروح للصراف البنكي ويصير يعصب لانه مو قادر يسحب مصاري من البنك، بينقلب مكسيكي وبيحمل فرد ويصير يهدد ويكفر من القهر. اللبناني مانه احسن من السوري بشيء، اللبناني ملتعن سلسفينه مثل السوري، بس اللبناني مفكر حاله عايش عيشة حلوة.. اللبناني متقلب المزاج ماعنده شخصية موحدة. أما السوري مزاجه ما بيتغير وشخصيته مستقرة، السوري باله طويل، وعايش كل يوم بيومه. السوري ما بيهمه كيف بينظر له اللبناني.. مفارقه معه مين عم بيراقبه او ينتقده. مهما طلعوا اللبنانيين بالإعلام وحاولوا يزعلوا السوريين، ماراح نزعل لأننا أقوى من الصخر. قلبنا طيب وبنحب الشغل. مابدنا حدى يشفق علينا، نحن بنقدر نعيش أحلك الظروف. ومالنا غيرك يالله.
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات