غزّة فلسطين أم إدلب؟ أم ساحة الكرامة؟

غزّة فلسطين أم إدلب؟ أم ساحة الكرامة؟

حتّى هذه الأيّام، ما زال ممثّلو التيّارات التي تعلن اختلافها مع من يدعون أنفسهم (محور المقاومة والممانعة) يقعون في شرك الانجرار إلى الزاوية التي تحشرهم فيها الدول المؤثّرة في المجتمع الدولي، أو من يمكن تصنيفهم (صنّاع القرار)، والمسألة ـ هذه المرّة ـ هي مسألة ( غزّة ـ إدلب ـ الحراك الشعبي السوري ).

فمنهم من ارتأى التركيز على مناصرة الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للقتل اليوميّ في قطاع غزّة فحسب، وتجاهل الحراك الشعبي السلمي الذي انطلق منذ عدّة أشهر من محافظة السويداء، وكذلك تجاهل المأساة التي وقعت على إدلب في الآونة الأخيرة من قبل الاحتلالين الروسي والإيراني.

ومنهم من يطالب بالتركيز على ما يحدث في إدلب فحسب، والنأي بالنفس عمّا يحدث في السويداء أو في قطاع غزّة.

وكأنّ القصف الروسي الإيراني الذي استهدف إدلب ليس له أدنى علاقة بالمأساة المستمرّة التي تحدث حتّى هذه اللحظة في غزّة، أو كأن القتل المجّاني الذي ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيليّ كلّ يوم في غزّة ليس مرتبطاً بالوحشيّة التي يمارسها الاحتلال الروسي والإيراني على أهالي إدلب.

 أرى أنّ القضيّة ـ في جوهرها ـ قضيّة واحدة، والأسباب التي أدّت إلى هذه المسرحيّة المأساويّة التي تجري في المنطقة خارجة من ذات الجذر ذاته.

ولكي أبرهن على ما ذهبت إليه سأحاول تسليط بؤرة الضوء على تسارع الأحداث منذ أعلنت السويداء حالة العصيان المدني بتاريخ 17/8/2023 وحتى الآن ، وذلك عن طريق طرح بضعة أسئلة ربّما تكون الإجابة عليها كفيلة بشرح السياق الذي تتابعت فيه الأحداث.

ـ لماذا لم تفكّر حماس ومن يقف وراءها بتوجيه ضربة إلى الكيان الصهيوني إلّا في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا كانت الضربة ذات مفعولٍ خلّبيّ على الاحتلال الإسرائيلي، بينما انعكست سلباً على سكّان غزّة المدنيّين الأبرياء، بل إنّها ـ أكثر من ذلك ـ أعطت الذريعة لإسرائيل لتستثمر هذه الضربة على ثلاثة صعد:

ـ إعلاميّاً

ـ تمويليّاً

ـ سياسيّاً ( أعني بالضبط خلط الأوراق لتفرض إسرائيل ـ كالعادة ـ إستراتيجيّاتها الخاصّة فيما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط على المجتمع الدولي )؟

ومن هو المستفيد الأكبر، أو بالأحرى من هي الجهات المستفيدة ممّا يحدث في المنطقة؟

غير أنّ السؤال الأكثر إلحاحاً، والذي ربّما تكون الإجابة عليه مفتاحاً للوصول إلى الإجابة على جميع الأسئلة المطروحة والأسئلة التي ستطرح لاحقاً

ـ لماذا تسارعت الأحداث تسارعاً مطّردًا بعد إعلان حالة العصيان المدني في محافظة السويداء؟

لا شكّ أن انطلاق الانتفاضة الشعبيّة في السويداء قد أحرجت النظام السوري إلى حدّ كبير، فقد سحبت منه أكثر حجّة كان يبرّر من خلالها دمويّته اللامحدودة ووحشيّته غير المسبوقة وجرائمه المتكرّرة التي ما زال يرتكبها بحق الشعب السوري منذ عام 2011، ألا وهي نظريّة ( حماية الأقلّيّات )

فالسويداء التي يشكّل المكوّن الدرزي أغلبيّة سكّانيّة فيها رفضت وأنكرت ادّعاءات النظام السوري بأنّ حراكها السلمي هو عبارة عن حركة انفصاليّة تهدف إلى سلخ الجنوب عن الوطن الأمّ، كما أعلنت أن هذه الانتفاضة هي جزء من الثورة السوريّة التي لا تكتفي بالمطالبة بجزئيّات مطلبيّة محدودة بل تسعى إلى إسقاط نظام الأسد المجرم وإقامة دولة مدنيّة قائمة على تداول سلميّ للسلطة.

ولأنّ النظام السوري بات عاجزاً عن استخدام الحلّ العسكريّ في قمع الانتفاضة السلميّة، وبعدما غدت قراراته مرهونة برضا وموافقة الاحتلالات التي استقدمها بذريعة حماية وجوده لقمع الثورة في البلاد، لم يجد بدّاً من أن يلتفّ على ما يحدث بافتعال مسرحيّات مأساويّة يبرّر من خلالها جرائمه التي سيرتكبها بأسلحة حلفائة كما فعل في مجزرة الكلّيّة الحربيّة في حمص التي خطّط لها بحيث تبدو فعلاً إرهابيّاً يستهدف مؤسّسة ما يسمى الجيش.

كلّ هذا ليخفّف الضغط الذي شعر به بعد أحداث السويداء.

ولكنّ حليفيه الإيرانيّ والروسيّ لم يكتفيا بذلك، بل راحا ينفّذان قصفاً ممنهجاً على مدينة إدلب ليشقّا صفوف الثورة بين أبناء الشعب الواحد عن طريق الصمت التام عمّا يجري في السويداء والتعامل بوحشيّة مع بقيّة نقاط الثورة ليبدو الأمر وكأنّ السويداء بمنأى عن الخطر، بينما تدفع باقي المحافظات ثمناً باهظاً.

وحين لم يجدهم فتيلاً جميع ما فعلوه بعد تزايد التأييد الشعبي لمظاهرات السويداء يوماً بعد آخر، لجأ نظام الملّالي إلى مسرحيّة أكثر قذارة بكثير؛ فقد أوعز إلى عملائه ( حركة حماس ) بتوجيه ضربة خلّبيّة إلى الكيان الصهيوني مانحة إيّاه الذريعة الكافية ليقوم بتدمير غزّة تدميراً ممنهجاً ويصرخ ـ في الوقت ذاته ـ مستغيثاً بالمجتمع الدوليّ لحماية إسرائيل من الخطر المزعوم المحدق بها.

وهكذا نجح محور الشرّ في خلط الأوراق وصرف الأنظار عن الحراك الشعبي في السويداء، وكذلك الجرائم التي يقوم بها نظام الأسد وحلفاؤه في إدلب، والتركيز على مأساة غزّة.

واللافت في الأمر هو تشابه ظروف المأساة بين ما حدث في إدلب، وما حدث في غزّة، فكما افتعل النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني مجزرة الكلّيّة الحربيّة في حمص، وكما منحته إسرائيل الذريعة الكافية ليسترسل في همجيّته عبر قصف مطاري دمشق وحلب، ما ساعده على تنفيذ عمليّاته العدوانيّة في إدلب والشمال السوريّ، كذلك تآمرت ( حماس ) ومن خلفها نظام الملالي  على مخطّط تدمير غزّة عبر الضربة الخلّبيّة التي وجّهتها ميليشيا (حماس) للكيان الصهيوني لتمنحه الذريعة الكافية ليقوم بتدمير ممنهج لكامل قطاع غزّة.

وكما صمت المجتمع الدولي صمتاً مطبقاً عمّا يحدث في إدلب، كذلك صمت عمّا يحدث في غزّة، وهذا ينقلنا إلى الإجابة عن السؤال الثاني:

ـ من المستفيد من كلّ ما حصل؟

أعتقد أنّ الإجابة باتت واضحة؛ المستفيدون هم الأطراف التي تدّعي الخصومة فوق الطاولة، أعني من يطلقون على أنفسهم تسمية (محور المقاومة والممانعة: ( نظام الملالي ـ نظام الأسد ـ حزب الله اللبناني )، وكذلك استفاد الكيان الصهيوني وأمريكا وروسيا أيضاً، وكان وجه الاستفادة إضفاء الشرعيّة على وجود مرتزقتهم وعملائهم في المنطقة ( بشّار الأسد ـ حسن نصر الله ـ وقياديّي حماس ).

أما من يدفع الثمن فهو الشعب الفلسطيني والشعب السوري

فإذا كانت الأدوات واحدة، والخطط متشابهة، وطريقة التنفيذ ذاتها، وإذا كانت المكاسب الإستراتيجيّة والسياسيّة تذهب إلى الأطراف التي تدّعي الخصومة فيما بينها، فما الذي يمنع وجود اتّفاق غير معلن بين هذه الأطراف؟!

انطلاقاً من كلّ ما سبق، أعتقد أنّه ينبغي على الشعوب التي تعاني المأساة ذاتها، والناشطين المدنيّين في الداخل والخارج توحيد كلمتهم حول مفهوم الصراع، ونبذ القضايا التي تفرّقهم وتجزّئ الرؤيا، العدوّ واحد والمأساة واحدة وما يحدث في إدلب مرتبطٌ بشكل مباشر بالذي يحدث في غزّة، والعكس صحيح، والمنطق المزاود الذي يطالب بالتركيز على دعم الثورة السوريّة بمنأى عن مأساة غزّة، أو المطالبة بنصرة القضيّة الفلسطينيّة بمعزل عن سياق الثورة السوريّة، هو منطق قاصر، ولا يرهص سوى للمزيد الفوضى والتشرذم، ما يساعد قوى الشرّ على تمرير مخطّطاتها الإجراميّة، وإستراتيجيّاتها التي تهدف إلى سحق إرادة الشعوب في تحقيق الحرّيّة والكرامة والمدنيّة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات