الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في القرن العشرين

الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في القرن العشرين

لعل العبارة أعلاه في العنوان ليست غريبة على القارئ الكريم؛ ذلك لأنها كثيرة الاستخدام عندما يكون الحديث عن شاعر العرب الأكبر عبر العصور أبي الطيب المتنبي، ولعلّي لا أذهب بعيداً إذا قلت إنه لم يحظَ شاعر من شعراء العرب بعد المتنبي بمكانة وجماهيرية تجعل منه حديث الناس، ويستحق بجدارة أن نطلق عليه العبارة المعروفة التي عُرف بها المتنبي أكثر من الشاعر نزار قباني، وذلك ليس لأن هذا الشاعر تفوّق على أقرانه ممن عاصروه كما حدث مع المتنبي، فإذا أخذنا هذا الجانب بالاعتبار، فلا شك أن نزاراً عاصر شعراء كباراً فاقوه من حيث الجودة الفنية وقوة السبك ومتانة التراكيب واتساع الخيال، ولن أخرج خارج القطر السوري، فأذكر شاعرين على الأقل جايلوه، وشكلا معه ثالوثاً شعرياً حسب تعبير الشاعر والناقد السوري حسن النيفي، وهما بدوي الجبل وعمر أبو ريشة، ولعلي أميل إلى تفضيلهما عليه من حيث الجودة الفنية وقوة السبك، لكنه أي نزار فاقهما والكثير مثلهما جماهيرية وشهرة؛ ذلك لأن الشاعر نزار قباني لم يخاطب الناس بما يفهمونه ونزل إليهم من برجه العاجي كشاعر وحسب، بل لأنه أيضاً اخترق المسكوت عنه وتجاوز الخطوط الحمر المرسومة من قبل المجتمع المحافظ، فتحدث عن أدق تفاصيل جسد المرأة، وعن أعمق ما تحس به من مشاعر، وهذا اصطدم مع جدار العادات والتقاليد المجتمعية المحافظة، ولم يكن هذا الخروج بسبب ضعف أو اختلال عقيدة عند شاعرنا، بل لأنه ضد الثقافة التقليدية للمجتمع وليس ضد العقيدة، فكان بهذا التوجّه والمسار الذي رسمه لنفسه بحق ودون منازع مالئ الدنيا وشاغل الناس في القرن العشرين.

لقد مرّت هذه السنة أي سنة 2023 مروراً سريعاً ولم يبق منها إلا القليل، لكنها سنة مميزة بالنسبة لشاعرنا نزار قباني رحمه الله، فهي تكون تمام المئة على ولادته، فقد وُلد في دمشق شهر مارس سنة 1923م، وبذلك يكون قد مرّ على ذلك مئة سنة وأشهر قليلة، ولقد توفيَ في شهر أبريل سنة 1998م.

ولعل القارئ الكريم يعذر مقالة صغيرة مثل هذه ألا تحيط بقامة شعرية كبيرة مثل نزار، فهذا يحتاج إلى كتاب ربما يتسع إلى عدة مجلدات، ولكننا في هذه العجالة نستذكر شاعرنا الكبير بمناسبة المئوية الأولى على ولادته، ونقف عند أهم محطاته الشعرية وقوفاً سريعاً يفي بغرض الذكرى لا غرض الدراسة والتمحيص النقدي، فهذا يحتاج إلى مقام آخر.

ولعل أهم ما يميز شاعرنا نزار قباني هما جانبان بدأ بأحدهما حياته الشعرية وهو شعر المرأة، والجانب الآخر هو السياسة أو الشعر السياسي الذي ختم به حياته الأدبية.

ففي شعر المرأة استطاع نزار قباني أن تكون له بصمة كبيرة في هذا الجانب، إلى درجة أن أي شاعر معاصر أراد أن يكتب بالفزل تراه يخشى الوقوع في حبال نزار، فيُتّهم بالتأثر به، وهذا عائد إلى أنه أي نزار جعل من شعر الغزل مادة سائغة سلسة على ألسنة جيل الشباب من الجنسين، فما كتبه صار أيقونة العشاق والمحبين في القرن العشرين، فكيف يمكن لغيره من الشعراء إذا أراد أن يتغزل ألا يتأثر بأسلوبه ولو من بعيد، وإن استطاع بعضهم تجاوز ذلك، فهذا لأنهم بذلوا جهداً كبيراً في تنقيح ومراجعة قصائدهم لتكون بريئة من التأثر بغزل نزار.

ولعل سبب انتشاره السريع والكبير في البدايات هو هذا النمط من السهل الممتنع البسيط الذي أعجب المطربين والملحنين من معاصريه مثل محمد عبد الوهاب، فأقدموا على تلحين بعضٍ من قصائده، فلاقت رواجاً كبيراً، وكان ذلك في بداياته عندما كان مع البعثة الدبلوماسية السورية في القاهرة.

ولعلّ قصيدته "أيظن" التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها نجاة الصغيرة كانت من أهم قصائده المغناة والتي لاقت رواجاً كبيراً، وقبولاً لا يوصف من الجمهور حينذاك.

يقول في بعضها:

 

أيظن أني لعبة بيديه

أنا لا أفكر بالرجوع إليهِ

 

اليوم عاد كأنّ شيئاً لم يكن

وبراءة الأطفال في عينيهِ

 

ليقول لي إني رفيقة دربه

وبأنني الحبّ الوحيد لديهِ

 

حمل الزّهور إليّ كيف أردُّه

وصباي مرسومٌ على شفتيهِ؟

 

حتى فساتيني التي أهملتها 

فرحت به رقصت على قدميهِ

 

ما عدت أذكر والحرائق في دمي

كيف التجأت أنا إلى زنديهِ

 

خبّأت رأسي عنده وكأنني 

طفلٌ أعادوه إلى أبويهِ

 

ونسيتُ حقدي كلَّه في لحظةٍ

من قال إنّي قد حقدتُ عليهِ

 

ولعل الجانب الآخر في شعره وهو الشعر السياسي كان له أيضاً الأثر نفسه لدى جمهور الشعر العربي، فلغة نزار كانت لغة الشارع العربي الذي كان يغلي بسبب الأحداث والنكبات التي حلت بالأمة، فكان شعره مرآة تعكس نبض هذا الشارع، وما يشعر به المواطن العربي تجاه قضاياه المصيرية. 

يقول في قصيدته مذكرات عاشق دمشقي والتي كتبها إثر نكسة حزيران:

 

فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا

فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا

 

حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيةٍ

على ذراعي ولا تستوضحي السببا

 

أنت النساء جميعاً ما من امرأةٍ

أحببتُ بعدك إلا خلتها كذبا

 

يا شامُ أين هما عينا معاويةٍ

وأين من زحموا بالمنكب الشهبا

 

فلا خيول بني حمدان راقصةّ

زهواً ولا المتنبي مالئٌ حلبا

 

وقبر خالد في حمصٍ نلامسه

فيرجف القبر من زواره غضبا

 

يابن الوليد ألا سيفٌ تؤجّره

فكلّ أسيافنا قد أصبحت خشبا

 

وأخيراً لا أستطيع أن أدعي أني أحطت بكل ما لدى هذه القامة الشعرية الكبيرة، فهذا كما بينت سابقاً يحتاج إلى كتاب من عدة مجلدات، ولكني حاولت بمناسبة هذه الذكرى أن أتحدث عن أهم جانبين عُرِف بهما نزار قباني، مهملاً عن قصد الحديث عن بساطته التي تصل أحياناً إلى الكلام اليومي المطروق، مكتفياً بالاستشهاد بشعره الفخم من الجودة الفنية وقوة التأثير، وعلى من يريد الاستزادة، فهناك دراسات وكتب كثيرة تحدثت عن تجربة نزار قباني باستفاضة يمكن العودة إليها.

 

التعليقات (4)

    4

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات