والأمر اللافتُ للنظر لديَ ولدى جميع العاملين في السلك القضائي ان الأفرع الأمنية لم تكن تبدي بالاً للسلطة القضائية, وكانت تضرب بالتعديل الذي طرأ على قانون الاصول الجزائية عرض الحائط , وقد نص التعديل المذكور على انه لا يجوز ان تتجاوز مدة التوقيف لدى الأمن السبعة أيام قابلة للتجديد أكثر من مرة بشرط ألا تتجاوز المدة كاملةً الستين يوماً, وأن يكون تمديد التوقيف من قبل النائب العام, وهذا يعني ضمناً انه يحق لقضاة النيابة العامة ان يتوجهوا الى دور التوقيف التابعة للأمن للتثبت من مدى مشروعية التوقيف ومدته, وطوال مدة خدمتي لم اجرؤ انا, ولم يجرؤ أي قاض آخر على مجرد التفكير بهذا الأمر, زد على ذلك ان أوراق تمديد التوقيف كانت تأتي الى مكتب المحامي العام دون أن تكون مرفقة بالضبوط, وكان كل عنصر من العناصر القادمين من الأفرع الأمنية المختلفة, وما أكثرها, يحمل بيده حزمة من تلك الأوراق المعبأة مسبقاً, ويقوم بوضع خاتم السيد المحامي العام بريف دمشق عليها , وهو (العنصر )في أغلب الأحيان يجلس بجانبنا, أو يتمشى في المكتب مختالاً فخوراً الى ان ينتهي المحامي العام من التوقيع على ذلك الكم الهائل من الأوراق , ودون أن يقوم الأخير بقراءة تلك الاوراق أو طلب الضبط للتثبت من مدى مشروعية التوقيف , بل كان يوقع تلك الاوراق وهو يتحدث معي أو مع غيري من القضاة الموجودين في المكتب وكنت أُمعن النظر بتلك الأوراق لأني أعلم ان كل ورقة منها كانت تحمل بين ثناياها قصة عذاب وألم لشخص حرم من حريته عبثاً وربما سيحرم من حقه في الحياة فقط لأنه رفض حياة الذل والهوان, قصة دموع لأمٍ او زوجةٍ او ابنةٍ تنتظر ذلك المعتقل, وما كان يثير انتباهنا نحن القضاة ان أولئك العناصر لم يكونوا يبدون الاحترام الذي يليق بمركز المحامي العام اذ ان الأخير وحسب القانون السوري هو رئيس الضابطة العدلية في محافظة ريف دمشق بأكملها, وما كان يثير حفيظتنا أكثر هو أن المحامي العام لم يرفض ابداً أي طلب لتمديد التوقيف ولم يطلب الضبط للتثبت من مشروعية التوقيف, أو بالأحرى لم يكن يجرؤ على ذلك , لأنه كان يعلم علم اليقين أنه لو طلب ذلك أو اذا ابدى استيائه من التوقيع سيكون مصيره كمصير محامي عام ادلب الذي وحسبما سمعت من قاض زميلي في ادلب انه لم يكن يوقع ورقة التمديد الا بعد الاضطلاع على الضبط والاقتناع بلزوم التمديد حسب قناعته الشخصية المبنية على أساس قانوني وخبرة عملية, وغالبا ما كان يرفض التوقيع ويأمر بختم الضبط وتقديم الموقوف للقضاء فورا. فكانت النتيجة أن لقيَ مصيره المدبر بان قامت (مجموعة ارهابية مسلحة ) باغتياله حسبما ظهر حينها في الشريط الاخباري للقنوات السورية الرسمية, والأسوأ أمما ذكر ان كتب التمديد تلك لم تكن تعبر عن جميع الموقوفين الموجودين في الأفرع الأمنية, اذ أن أحد العناصر قد اسرَّ لي حينها بان هذه الاوراق تنظم لبعض الموقوفين فقط, لتقديمها للجان التفتيش ولجان حقوق الانسان الدولية ومبعوثي الامم المتحدة وجامعة الدول العربية, اذا ما طلب منهم ذلك من تلك الجهات ,أما بقية المعتقلين لم تكن تنظم الضبوط بحقهم الا عندما يقرر المسؤول الأمني تقديمهم للقضاء وينظم الضبط بتاريخ لاحق للتوقيف بعدة اشهر, وهذا ما كنت اسمعه ايضا من المعتقلين الذين قمت باستجوابهم, واحيانا كان يتم ترك الموقوف دون تقديمه للقضاء.
وان ما ذكرناه هو غيض من فيضِ ما يعانيه المواطن السوري في أقبية ودهاليز الأفرع الأمنية من مختلف صنوف التعذيب والاهانة, وكيف يتم التلاعب بالضبط وقبله بالموقوف محل الضبط, وان الحل الوحيد لهذه العلل هو ما يكرره دائماً الاكاديميين ورجال القانون, وذلك بأن يتم تأمين الاستقلالية التامة للسلطة القضائية وبأن يكون القاضي حراً في قراره القضائي, لا أن يكون تحت تأثير التهديد المباشر أو الغير مباشر للأجهزة الأمنية او للسلطة التنفيذية. وأن يتم اخضاع الأفرع الأمنية لرقابة القضاء, لا العكس, وبذلك يتخلص المواطن من الرعب الذي يسكنه منذ اكثر من أربعة عقود من الزمن.
التعليقات (3)