احتفالا بمائة عام على الاحتلال

احتفالا بمائة عام على الاحتلال
قبل مئة عام، وبالتحديد في 28 تموز عام 1914، بدأت الحرب العالمية الأولى بين قطبي الكرة الأرضية: دول الحلفاء، ودول المحور؛ على خلفية مقتل وريث العرش النمساوي على يد مواطن صربي متحمس للحرية وتقرير المصير. كانت هذه الشرارة الأولى لحرب حصدت أكثر من تسعة ملايين إنسان حول العالم، إلا أنها بالمقابل أنهت إمبرطوريات مريضة، ولابد من القضاء عليها، من القيصرية الروسية إلى السلطنة العثمانية، مروراً بالإمبراطورية الألمانية، وغيرها من الدول التي زجت مواطنيها في حرب لا معنى لها، سوى إيجاد مناطق نفوذ جديدة.

مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ مفهوم جديد يستولي على أذهان الدول المنتصرة، بعد القضاء على دول كانت على حافة الهاوية، وجاءت الحرب لتكون طلقة الرحمة على رأس الديكتاتور الغبي، الذي لم يستطع أن يحافظ على ملكه بطريقة أكثر براغماتية، كعدوّتها بريطانية التي تمكّن فيها تشرشل من أن يكون رجل المرحلة؛ هذا المفهوم الذي تخلى عن اسم الاحتلال والقوة الغاشمة التي تستولي على أي أرض في أي منطقة، ضمن مفهوم المستعمرة الخاضعة بشكل مباشر للدولة المحتلة، فظهر مكانه مفهوم "الانتداب" بمباركة عصبة الأمم آنذاك، التي لا تختلف كثيراً عن الأمم المتحدة في أيامنا هذه لتشرعن الانتداب، على أنه محاولة كريمة من الدول العظمى لانتشال الدول المتخلفة من تخلفها، وبقوة السلاح والاحتلال، كما هو مفهوم نشر الديموقراطية في العالم الذي تصدت له الولايات المتحدة الأمريكية.

لعل ما فعله محمد (بوعزيزي) في تونس، هو استنساخ ما فعله المواطن الصربي بوريث العرش النمساوي، حيث بدأ الربيع العربي باجتياح عروش الرؤساء الذين هرموا أكثر مما يجب، وباتوا غير قادرين فعلياً على حماية المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، فكان لابد من إعادة هيكلة هذه الدول والتخلي بشكل نهائي عن هؤلاء الطغاة بحجة الديموقراطية وإدارة النزاعات داخل الدول الموجودة أصلاً بفعل الحكم الديكتاتوري لهذه الدول، تمهيداً للعمل على مفهوم الفوضى الخلاقة؛ ففي الماضي عملت هذه الدول على إيجاد شرعية تامة لهؤلاء الطغاة الذين وصلوا عبر انقلابات عسكرية مسكوت عنها دولياً لاستثمار هذا الضابط المنقلب، والذي تسلم زمام البلاد بقوة السلاح، للسيطرة على المصالح الاستراتيجية لهذه الدول عبر الوسيط الأمني لهذه البلدان؛ هذا الجهاز الذي في الغالب لا يتغير في هذه الدول الشمولية، على اعتبار أنهم من أرسوا دعائم الانقلاب، وعادة ما يكون انتماء هذه الأجهزة للدول الكبرى التي تستطيع أن تزرع من تشاء في دول منهكة بالفساد، للعمل عبر "قوى وطنية" تستطيع أن "تبذل الغالي والنفيس" في سبيل الحفاظ على السلطة، وبالمقابل لحشد الحقد الشعبي ضد هذا الديكتاتور الذي سرعان ما ينفجر في حالة الطغيان الشديد، بغية استثماره ضمن تلك المصالح، إما باستبدال الطاغية دون محاسبة كما في النموذج التونسي، لأنه قد انتهى، أو دعمه من تحت الطاولة لإنهاء البلد الذي يحكمه، كما في النموذج السوري، أو قتله مع أسراره، لأنه أصبح كـ (شمشون)، ولابد من إرغامه على السكوت، كما في النموذج الليبي!

في غفلة من الدول الكبرى، استطاع المواطن العربي، الذي خرج يهتف للحرية أن ينزع كل استبداد السنين الذي مورس عليه، فكان لابد من الانشغال في تمييع بعض الثورات، وإيهام الرأي العام المحلي بدعم أخرى، إلا أن التجربة الديموقراطية التي عمل عليها شعوب بعض دول الربيع العربي لم تكن في المكان الصحيح لبوصلة المصالح، التي ربما تخرج المنطقة برمتها من أيديهم، لتبدأ سيناريو الثورات المضادة، عبر ر جالات عسكريين مرتبطين بولاءات واضحة، الغاية منها إثارة الاقتتال في هذه الدول، كما يحدث الآن في مصر، وليبيا، وتونس، بعد أن استقر لهم الأمر في الجزائر، بعد عشرة سواء طاحنة.

لعل التقدم الملحوظ الذي حققه الجيش الحر في سورية على قوات النظام السوري في السنة الأولى للحرب في سورية أوجد مخاوف كبيرة عند بعض الدول، من تفوق شعبي على ديكتاتور طائفي هو صورة لا حول ولا قوة لها في قرارات تتخذ ضمن مكاتب الأجهزة الأمنية المرتبطة فعلياً بقوى كبرى واجهتها إيران، فأعطي الضوء الأخضر لدخول آلاف من المقاتلين الطائفيين، دون أي استنكار دولي، إلا أنهم زجوا بتنظيم جهادي وضع على قائمة الإرهاب ليكون الشماعة لأي تدخل عسكري مباشر، بغية منع التفوق لأي طرف من الأطراف، وإيجاد منطقة عازلة تكون فيها إسرائيل آمنة!

في تكرار للسيناريو الأفعاني الذي يروي فصول تمرد التابع على السيد، أو هكذا تمت المسرحية، وراحت دولة الخلافة تتمدد في مناطق سورية والعراق، لتغيير الخرائط الجيوسياسية، وتظهر خرائط جديدة مع تحالفات لقتال التنظيمات الجهادية، في محاكاة لتحالف الشمال الأفغاني، وإسقاط دولة الجهاديين المتمردين، لإعادة نسج التاريخ بعد مرور مائة عام على فكرة الانتداب، لتعود هذه الفكرة ضمن مفهوم نشر الديموقراطية، وعلمنة المجتمعات، قد يكون عن طريق احتلال مباشر عبر جيوش من الممكن أن تنهك الدول الكبرى إلى حد ما، أو عبر وسيط إقليمي، يرى بنفسه إمبراطورية كبرى مثل إيران، دون أن يعرف هذا الوسيط أنه على حافة الهاوية، أو أن طلقة الرحمة جاهزة للإجهاز عليه في اللحظة التي ينتهي بها آخر جهادي في المنطقة!

ربما يكون الاحتفال بمرور مائة عام على بداية استعمار شرق المنطقة العربية وتقسيمها إلى دويلات على أساس نفوذ استعماري، ليكون هذا الاحتفال ثمرة تقسيم المنطقة على أساس مذهبي وعرقي، يفتت المنطقة إلى كانتونات يسهل التهامها، خاصة أن التداعيات في المنطقة تجاوزت حد التوقعات إلى اليقين بالتقسيم؛ من الإدارة الذاتية للمناطق الكردية في سورية، أو ما يسمى "غرب كردستان"، إلى تهجير مسيحيي الموصل على يد داعش، والتهجير العرقي في مناطق جبال سنجار العراقية، الأمر الذي يؤكد أن السيناريو سينتقل من الانتداب إلى الاحتلال!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات