نيرون نجم غلاف (ناشيونال جيوغرافيك): هل افترى عليه المؤرخون؟

نيرون نجم غلاف (ناشيونال جيوغرافيك): هل افترى عليه المؤرخون؟
كانت السنوات الأولى من عهد نيرون، سنوات ذهبية. إذ ألغى المحاكمات السرية التي سادت في عهد الإمبراطور كلاوديس، وأصدر مراسيم عفو، وكان كلما طلب منه التوقيع على حكم بالإعدام، يقول متحسراً: "يا ليتني لم أتعلم الكتابة" وكان من عادته أن يدعو بعض الشعراء إلى عشاء عمل - ربما بهدف سرقة بعض أبياتهم كما زعم البعض – ويكرّس قسطاً كبيراً من وقته للعزف على قيثارته والغناء، وكان كاتب سيرته (سويتونيوس) كتب عنه قائلاً: "بادئ ذي بدء، كان مهووساً بفكرة أن يكون محبوب الجماهير".

 فنان واستعراضي ورجل حاذق!

ولكن بروفيسور الدراسات الكلاسيكية لدى جامعة برينستون (إدوارد شامبلين) يرى شخصية نيرون بعين أكثر انتباها للطائف الأمور، ففي كتابه الذي حمل عنوان: (نيرون) والهادف إلى تنقيح التاريخ، يقول: (تشامبلين) عن بطل كتابه بأنه: "فنان واستعراضي لا يكل ولا يمل، ولكن قدر أن يكون إمبراطور روما" كما يصفه بأنه: "رجل حاذق في مجال العلاقات العامة، فقد سبق زمانه بفضل تنبهه لما ترغب به جماهير شعبه، وذلك قبل أن تعرف الجماهير نفسها ما ترغب به في كثير من الأحيان" على سبيل المثال، أطلق نيرون (المسابقات النيرونية) وهي عبارة عن مباريات في الشعر والموسيقى والألعاب الرياضية شبيهة بالألعاب الأولمبية، ولكن ما حظي برضى عامة الشعب لم يحظَ دائماً برضى النخبة الرومانية؛ فعندما أصر نيرون أن ينافس أعكائ مجلس الشيوخ إلى جانب العوام على الألعاب المفتوحة، بدأ عصره الذهبي يتصدع تحت وطأة التوترات التي تسبب بها!

هذه سطور من دراسة نشرتها مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) العربية، في نسختها الورقبة، عن الإمبراطور الروماني نيرون، الذي اتهم بأنه أحرق عاصمته روما عام (64) للميلاد، بهدف إعادة بنائها، وجلس يحتسي الخمر، ويعزف الكمان وهو يرى عاصمة ملكه تشتعل أمام ناظريه.

الباحث روبرت داريبر، يقدم رؤية جديد عن نيرون في دراسة (ناشيونال جيوغرافيك) المعنونة: (نيرون قراءة جديدة) التي استغرقت (25) صفحة من عدد المجلة الجديد الصادر هذا الشهر، متضمنة صوراً مذهلة عن قصر نيرون، المكتشف في روما عام 2007. وقاعة الألعاب الرياضية التي أنشأها للعموم قبيل سنوات قليلة من اندلاع حريق روما الكبير.

 السر في عدائه لمجلس الشيوخ!

يتساءل روبرت داريبر في رؤيته الجديدة التي يقدمها سؤالا مفاده:

" حسناً.. كيف للمرء أن يرد الاعتبار لرجل تقول الروايات التاريخية، إنه أمر بقتل زوجته الأولى (أوكتافيا)، وركل زوجته الثانية (بوبيا) حتى الموت وهي حامل، وأوعز بقتل أمه (أغريبينا) الصغرى، وربما غدر ب(ريتانيكوس)، ابن زوج أمه؛ وأمر معلمه الخاص (سينيكا) بالانتحار، (فما كان من معلمه إلا أ استجاب له بوقار) وخصى شاباً يافعاً ثم تزوجه؛ وأشرف على إحراق مدينة روما عام 64 للميلاد، ثم ألقى باللائمة على مجموعة من المسيحيين (بمن فيهم القديسين بطرس وبولس)، الذين قبض عليهم وأعدموا، إما ضرباً بالأعناق، أو صلبوا ثم حرقت جثثهم كما لو كانت مشاعل تنير مهرجانا إمبراطورياً؟"

ويضيف دايبر:

" بعد كل ما سلف يبدو أن الادعاء بأن نيرون كان تجسيداً للشر بعينه مسألة محسومة وغير قابلة للطعن، ولكن... هناك أسباب قوية تدعو للاعتقاد أن مجلس شيوخ روما أمر بمحو أثر نيرون لغايات سياسية محضة؛ لعل من بينها خروج الجماهير المفجوعة بخبر موته إلى الشوارع تبكيه على امتداد الإمبراطورية الرومانية لدرجة دفعت خليفته (أوثو) لأن يتبنى اسم (أوثو نيرون) ولعل من بينها أن المفجوعين بموته ظلوا يضعون الأزهار على قبره لسنوات طويلة بعد وفاته، وقيل أن شَبَحَه سكن المكان حتى بنيت كتيسة فوق رفاته عام 1099 في ساحة (بياتزاديل بوبولو) ولعل من بينتها أن الناس تناقلوا أنباء عن مشاهدة شخصيات مزيفة تشبهه، فتمسك بعضهم بفكرة أن هذا الملك الصبياني سيعود لجماهير شعبه الذي طالما أحبه بشدة"

 المسيح الدجال!

ويعلق دايبر على كل هذه الوقائع، ملقياً ظلالاً من الشك حول كتابة سيرة نيرون الذاتية، فيقول:

" مما لا شك فيه أن الموتى لا يكتبون سيرهم بأنفسهم، وكانت لأول شخصين كتبا سيرة نيرون (سويتونيوس و تاسيتوس) روابط قوية بنخبة أعضاء مجلش الشيوخ، وقد عمدا الرجلان إلى إغداق عبارات البغض والاحتقار في تأريخهما لعهد نيرون. أما في كتابات المسيحيين، فقد كان لفكرة عودة نيرون من جديد معانٍ شريرة، إذ حذّر سفر (أشعياء) من نيرون بصفته المسيح الدجّال بالكلمات التالية: "سيهبط من عليائه بصورة رجل هو ملك الخطايا وقاتلٌ لأمه" ثم جاءت في العصر الحديث أمثلة التصوير التشهويهي المبالغ فيها؛ إذ صوّر الممثل الإيطالي (إتوريه بيتروليني) نيرون على أنه رجل معتوه ثرثار. وجسّد الممثل البريطاني (بيتر يوستينوف) على أنه مجرم جبان، فخلد في أذهان المشاهدين صورة مزعجة لنيرون يعزف الكمان وهو يشاهد روما تحترق. وهكذا نلحظ أن ما حدث تباعاً لم يكن على الإطلاق محواً لذكرى نيرون، بل شيطنة لصورته. وهكذا تحول من حاكم ذي شخصية معقدة متعددة الجوانب، إلى مجرد وحش كريه ".

وتعليقاً على الموضوع، تقول (ماريسا رانييري نانيتا) المتخصصة بعلم الآثار:

"نحن نستنكر سلوك نيرون اليوم، ولكن بالمقابل فلنتأمل ما فعله الإمبراطور المسيحي العظيم (قسطنين) الذي أمر بقتل كل من ابنه البكر وزوجته الثانية وحماه. ليس منطقياً أن نصور أحدهما أنه قديس، ونصور الآخر على أنه إبليس! بل تأمّل ما فعله الإمبراطور (أغسطس) الذي قضى على طبقة كاملة بأكملها من خلال قوائمه السوداء؛ فعلى الرغم من أن دماء هؤلاء سالت أنهارا في روما، إلا أنه استطاع أن يطلق حملة دعائية مؤثرة، تبرر كل جرائمه وتجاوزاته، فقد كان يعرف كيف يستغل وسائل الدعاية المتاحة آنذاك لصالحه. وهكذا غدا (أغسطس) عظيماً في عيون الناس، أو هكذا قيل. ولا أعني هنا تلميع صورة نيرون وتقديمه كإمبراطور عظيم، ولكنه كان أفضل مما قيل عنه، وليس أكثر سوءاً من أولئك الذين سبقوه أو جاؤوا من بعده"!

 هل أحرق روما حقاً؟!

بعد حريق روما، بنى نيرون قصراً لنفسه سماه: (دوموس اوريا) وبما أن نيرون استفاد من الحريق لبناء القصر فلا بد أنه كان من تسبب به، فالحريق المرعب التهم (10) من أصل (14) منطقة في روما، لكن (بانتيا) ترى:

"إن (تاسيتوس) نفسه، وهو أهم الأشخاص الذين هاجموا نيرون في كتاباتهم، روى أن لا أحد يعلم ما إذا كان الحريق نتج عن فعل متعمد أم بالصدفة. كانت شوارع روما في عهد نيرون ضيقة جداً. وكانت تحفها أبنية مرتفعة ذات طوابق عليا خشبية، وكانت النار ضرورية للإنارة والطبخ والتدفئة، وبالتالي فقد شهدت كل عهود الأباطرة تقريباً حرائق كبرى"

كما تجدر الإشارة إلى أن نيرون لم يكن في روما عندما اندلع الحريق الكبير، بل كان في مسقط رأسه مدينة (انتيوم) وفي مرحلة ما من الحريق هُرع عائداً إلى روما. وعلى الرغم من وجود ما يشير إلى أن نيرون كان يستمتع فعلا بالعزف على آلة موسيقية تدعى القيثارة، إلا أن أول رواية زعمت أنه أخذ يعزف عليها وهو يراقب ألسنة اللهب تلتهم مدينته، كتبها شخص يدعى (كاسيوس ديو) بعد قرن ونصف من وقوع الفاجعة. أما (تاستيوس) الذي عاصر نيرون، فكتب أن الأميراطورأمر بإيواء المشردين، وعرض حوافز مالية لكل من يسارع في إعادة إعمار المدينة، بل وأصدر قواعد للوقاية من الحريق وفرضها على الشعب... وقبض على المسيحيين المركوهين على المستوى الشعبي فأدانهم وصلبهم. واستولى على الأطلال المحروقة للمدينة الخالدة ليتخذ من أرضها الموقع المستقبلي لبيته الذهبي.

 أول اشتراكي في التاريخ!

مات نيرون بعد حريق روما بأربعة أعوام... ففي سنة (68) للميلاد وبعد أن انهار العالم الجنوني لهذا الإمبراطور البالغ من العمر آنذاك 30 سنة. أمر خادمه أن يطعنه في حلقه بعدما قال جملته الأخيرة: "يا حسرة على الفنان الذي يموت بموتي!"

وعلى امتداد الإمبراطورية الرومانية السابقة المترامية الأطراف، اختارت مدينة واحدة فقط أن تحتفي بنيرون؛ إنها (أنزيو) المدينة التي اشتهرت سابقاً بكونها أحد مواقع إنزال القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية. فهنا مسقط رأس نيرون، وهنا احتفظ بدار مترفة أخرى بات معظمها مغموراً بمياه البحر، علماً أن العديد من لقاها الأثرية محفوظ في المتحف المحلي للمدينة. ففي عام 2009 كلف رئيس بلدية المدينة الجديد (لوتشيا بروسكيني) أحد الفانانين نحت تمثال لابن المدينة السيء السمعة. وقد كشف النقاب عن التمثال عام 2010. وتحمل اللوحة التعريفية عند قاعدة التمثال الاسم الكامل لنيرون باللغة الإيطالية: (نيرون كلاوديو سيزاره أوغستو جيرمانيكو) وبعد توضيح نسَبه تقول اللوحة:

"خلال عهده، عاشت الإمبراطورية مرحلة من السلام.. ومن التألق ومن الإصلاحات العظيمة"

وفي حديثه عن نيرون يقول (بروسيكيني) رئيس بلدية (أنزيو):

"كان من عادتي في صغري أن أسبح بين أطلال دار نيرون، وقد لُقنّا خلال طفولتنا أنه كان رجلا شريراً، بل من بين أسوأ الأباطرة على الإطلاق. ولكن بعد أن تعمقت في الموضوع قليلاً توصلت إلى نتيجة مفادها أن هذا الكلام غير صحيح، وأنا شخصياً أعتبر أن نيرون كان إمبراطورا جيداً، لا بل عظيماً.. ولعله من أحب الأباطرة إلى قلوب جماهير الأمبراطورية بأكملها. وكان مصلحاً، إذ كان أعضاء مجلس الشيوخ أثرياء ويملكون عبيداً، فعمد إلى الأخذ منهم لإعكاء الفقراء. إنه أول زعيم اشتراكي".

• المصدر: (ناشيونال جيوغرافيك العربية): عدد سبتمبر 2014 <بتصرّف>

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات